بيت الطاعة بين إرث العبودية وصراع الكرامة الإنسانية

بيت الطاعة بين إرث العبودية وصراع الكرامة الإنسانية
مدخل لم يكن "بيت الطاعة" مجرد مسكن زوجية يُذكر في نصوص القانون، بل تحول إلى رمز ثقيل الدلالة على صراع طويل بين الإرث الأبوي الموروث وبين قيم الحرية والكرامة الإنسانية. فبينما يتأسس الزواج في الإسلام على "المودة والرحمة" كما ورد في القرآن الكريم، تسلل عبر عصور الضعف والانحطاط ما حوَّله إلى أداة قسرية لإخضاع المرأة وإفقادها جوهر إنسانيتها. ومن هنا، فإن دراسة "بيت الطاعة" لا تقتصر على الجانب القانوني، بل تمتد إلى علم النفس والاجتماع والفلسفة، بوصفه مؤسسةً تمثّل عقلية تسلطية أكثر مما تعبّر عن روح الدين أو مقاصده. شروط مسكن الطاعة: بين النص والواقع ينص القانون على أن يكون مسكن الطاعة: • آمنًا ومناسبًا، يوفر للزوجة الخصوصية والاستقرار. • خاليًا من سكنى الغير، منعًا للاحتكاك مع الأقارب. • مجهزًا بكافة الاحتياجات، متوافقًا مع المستوى الاجتماعي للزوجة. لكن هذه الشروط، رغم ظاهرها العقلاني، كثيرًا ما أُفرغت من مضمونها في التطبيق العملي. فالزوج قد يستغل النصوص لفرض سيطرة شكلية على الزوجة، في حين أن البيئة الحقيقية للمسكن قد لا تفي بمتطلبات الأمان النفسي والاجتماعي. هنا يظهر التناقض بين النص القانوني المجرّد وبين الواقع المعاش. إنذار الطاعة والنشوز: آلية للإكراه الإجراءات تبدأ بإنذار رسمي للزوجة بالعودة إلى بيت الزوجية خلال ثلاثين يومًا، فإذا امتنعت اعتُبرت "ناشزًا"، وسقطت بعض حقوقها في النفقة والمتعة. وعلى المستوى القانوني الصرف، تبدو العملية كآلية تنظيمية، لكن على المستوى النفسي والاجتماعي تتحول إلى وصمة تلاحق المرأة، وكأنها عاصية خارجة على "القانون المقدس" للأسرة. من الأمثلة المأساوية ما ورد في الصحف المصرية عام 1945، حين سُلِّمت زوجة إلى زوجها قهرًا، فانتهى الأمر بجريمة قتل طالتها وابنتها. هذه الحادثة تكشف بجلاء أن القانون الذي يشرعن الإكراه لا يمكن أن يضمن السلم الأسري، بل يُنتج العنف والدماء. البعد النفسي: صدمة مقنَّعة من منظور علم النفس، فإن إجبار المرأة على العودة إلى مسكن ترفضه يمثل صدمة نفسية متكررة. فهي لا تعيش علاقة طبيعية قائمة على الحب، بل تُساق قسرًا إلى حياة تفتقر إلى الرضا والقبول. والنتيجة غالبًا: • مشاعر الاغتصاب المعنوي، حيث تُنتهك إرادة المرأة قبل جسدها. • تراكمات من الغضب والانتقام المكبوت قد تتحول إلى اضطرابات نفسية أو أفعال عنف. • انتقال الصراع إلى الأبناء، بما يولّد جيلًا جديدًا مأزومًا. إذن، "بيت الطاعة" ليس مجرد إجراء قانوني، بل جرح نفسي مفتوح قد يلازم الضحية سنوات طويلة. البعد الاجتماعي: إعادة إنتاج الهيمنة اجتماعيًا، يمثل بيت الطاعة استمرارًا لهيمنة البنية الأبوية، حيث يُنظر إلى المرأة كملكية خاصة للرجل. هنا يتجاوز الأمر العلاقة الزوجية ليصبح آلية لإعادة إنتاج السيطرة الذكورية داخل المجتمع. فالزوجة، بدل أن تكون شريكة، تصبح خاضعة، ويُفرغ الزواج من معناه الإنساني ليُعاد تشكيله كمؤسسة طاعة وقهر. ولعل هذا ما دفع المفكرة د. درية شفيق في كتابها المرأة المصرية إلى القول بأن "بيت الطاعة وليد العهد التركي، حيث اعتُبرت المرأة متاعًا لا إنسانًا". هذا الطرح يبرز أن الظاهرة لم تأتِ من صميم الفقه الإسلامي في عصوره الأولى، بل من تداخل عوامل اجتماعية وسياسية منحطة. الفلسفة والكرامة الإنسانية من منظور فلسفي، يُطرح سؤال جوهري: هل يمكن لكرامة الإنسان أن تقبل الانقسام؟ يرى إيمانويل كانط أن الإنسان "غاية في ذاته لا وسيلة لغيره"، بينما يُحوِّل "بيت الطاعة" المرأة إلى مجرد وسيلة لإشباع رغبة الزوج أو لإثبات سلطته. وهنا يبرز التناقض بين مفهوم الزواج كعلاقة وجودية بين ذاتين حرتين، وبين واقع قانوني يُشرعن القسر والإكراه. فالكرامة الإنسانية، كما تُفهم في الفكر الفلسفي الحديث، ليست قابلة للمساومة. وأي نظام قانوني يجبر المرأة على العيش في بيت لا تريده هو في جوهره إلغاء للذات الإنسانية وتحويلها إلى شيء. القانون: بين حماية الحرية وتكريس العبودية القانون، في فلسفته الأصلية، وُضع لحماية الحرية وضمان العدالة. غير أن "بيت الطاعة" كشف عن الوجه الآخر للقانون حين يُستعمل كأداة للهيمنة. لقد سمح للنظام القضائي في الماضي بأن يُدخل الشرطة إلى أخصّ أسرار الحياة الزوجية، فيسلموا امرأة إلى زوجها كما تُسلَّم بضاعة إلى صاحبها. من هنا، كانت المطالبات الملحة ـ خاصة بعد ثورة 1952 وإلغاء المحاكم الشرعية ـ بإلغاء "دعوى الطاعة" نهائيًا. وقد شكّل هذا الإلغاء خطوة مهمة نحو تحرير القانون من أغلال الأبويّة وإعادته إلى غايته الأصيلة: حماية الحرية والكرامة. صورة أدبية: امرأة في الطريق لنتخيل المشهد: امرأة تُقاد بين رجال الشرطة نحو بيت الطاعة، عيناها دامعتان، والناس من حولها يتهامسون. الأطفال يتبعونها بفضول، النساء يشيحن بوجوههن خجلًا أو قهرًا، والرجال يبتسمون ابتسامات شامتة. داخلها يتصارع الخوف مع الغضب، الرغبة في الهروب مع الاستسلام. وما إن تُغلق الأبواب حتى تدرك أن لا ملجأ لها سوى الموت أو الجنون. هذه الصورة، وإن بدت مشهدًا أدبيًا، إلا أنها تعكس واقعًا تاريخيًا عاشته نساء كثيرات. وهو واقع يُظهر أن القهر لا يصنع أسرة، بل يولّد مقبرة معنوية داخل البيت. نحو أفق جديد إن "بيت الطاعة" ليس مجرد قضية قانونية، بل تحدٍّ حضاري. فهو يمتحن قدرتنا على الانتقال من إرث العبودية إلى قيم الحرية والرحمة التي بشّر بها القرآن الكريم. إن الإصرار على إبقائه يعني أننا لم نفهم جوهر الدين ولا روح العصر. اليوم، ومع تزايد الوعي بحقوق المرأة، لم يعد مقبولًا أن نعيد إنتاج هذه المنظومة. فالزواج، إذا فقد شرط الحرية، يفقد معناه الإنساني. والمرأة، إذا سُلِبت إرادتها، لم تعد شريكة بل رهينة. خاتمة لقد أنكر بعض المثقفين في الخارج وجود "بيت الطاعة" في مصر، لا لجهل، بل خجلًا وغيرة وطنية. غير أن الحوادث والدماء أثبتت أن الإنكار لا يلغي الحقيقة. إن إلغاء هذا النظام ليس مجرد إصلاح قانوني، بل إعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية، وإقرار بأن المرأة ليست جارية، بل إنسان كامل الشراكة في بناء الأسرة والمجتمع. إن تحرير بيت الزوجية من سلطة الإكراه هو الخطوة الأولى لتحرير المجتمع كله من إرث العبودية، نحو أفق تُبنى فيه العلاقات على المحبة والحرية، لا على القهر والاستعباد. مرجع عربي • درية شفيق، المرأة المصرية، القاهرة: دار المعارف، 1946.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال