همسُ الظلال في ليلٍ ثائر
في براح الصحراء الممتد بلا حدود، حيث الريح تصفر في أعماق الوديان كأنها ناي حزين، نُصبت خيمة صغيرة من الشعر، متواضعة في مظهرها، لكنها تحتضن حياة كاملة لعائلة من العربان الرحّل. هناك كان يسكن عرفان ، الذي أطلق عليه الناس لقب أبو عرب، هيبةً وخشيةً. كان رجلاً ضخماً، عريض المنكبين، يجرّ قامته العملاقة بين الرمال كأنه جمل في مسيره المتمهل، أو صخرة تحركت بإرادة غامضة.
وجهه مجعَّد مشدود الجلد، كأنه منحوت من صخر قاحل، عيناه تقدحان شرراً إذا غضب، وصوته حين يغني مردداً لحنه البدوي وهو يمص قصبته المحشوة بالتمباك، يُخيَّل لمن يسمعه أنّ ذئباً يطلق عواءه في عمق الليل. كان سريع الغضب إذا استفزه أحد، فيثور ثورة الثور الوحشي، لكنه ما يلبث أن يهدأ إذا لُيّن جانبه، فيغدو وديعاً، كالحمل الضعيف، يفيض بشاشة وكرماً ووفاءً.
أحبّ أولاده الستة حباً شديداً، كأن قلبه أمّ رؤوم تسع الجميع برعايتها. ومع ذلك، فإن موضعاً خفياً من قلبه ظل محجوزاً لكائن آخر ليس من نسله: كلب أسود ضخم، كثيف الشعر، متوحش الهيئة، التقطه من الطريق رضيعا يترنح على حافة الهلاك، فأواه وربّاه حتى صار ظلّه وحرّاس خيمته وقطيعه. أطلق عليه اسم مارد ، وكان أشبه بابن سابع، بل ربما أثير عند أبي عرب من حنان لم يسكبه على سواه. تأثرت أخلاق الكلب بأخلاق سيده، فحمل منه صفات الغضب العارم والحلم المديد، وتحوّل إلى صورة معكوسة لسيّده في طباعه.
على مقربة من مضارب أبي عرب، كان يقوم بيت السيد مارد ، صاحب الضيعة الواسعة، حيث يقيم مع زوجته وابنه الوحيد خميد ، الطفل المدلل الذي لم يبلغ العاشرة. كان خميد مدللاً لدرجة العبادة، يحيطانه والداه برعاية تغمره من كل صوب. يقضي أيامه مع خادمه متولي ، يصطادان العصافير والسمك، ويقذفان الكلاب بالحجارة عند حافة الترعة، أو يتدحرجان فوق التلال الصغيرة التي تزين أطراف القرية.
كان بينه وبين مارد خصومة عميقة الجذور ، بدأت حين تحرش الصبي المدلل بالكلب المتوحش، فاشتعلت بينهما عداوة شرسة، صبي في براءته المتهورة وكلب في عنفوان غرائزه. كان مارد إذا لمح الغلام من بعيد، ينشر أذنيه، ويشم الهواء، ويركز نظره في اتجاهه كمن يترقب عدواً لدوداً. يزمجر ويكشف أنيابه، كأنه يتهيأ للهجوم. أما حميد ، فإذا رآه، أمطره بوابل من الحجارة، واحتمى بأصحابه، فيزداد النزاع تأججاً.
وذات يوم، خرج حميد مع متولي ، وانطلقا نحو التلال. صادف أن مارد كان عند الترعة يروي عطشه. لم يملك حميد كبرياءه الطفولي، فالتقط حجراً حاداً وقذف به الكلب، فأصاب رأسه وأدمى جلده. رفع مارد رأسه، وإذا الغضب يشتعل في عينيه كالبرق. قفز غاضباً يبحث عن الجاني، ثم سرعان ما لمح الغلام مختبئاً فوق تل عالٍ شديد الانحدار. أخذ الكلب يصعد التل، ينبح نباحاً جافاً، غير مبالٍ بوابل الحجارة التي تنهمر عليه.
ارتعد قلب الغلام حين رأى الوحش يقترب، وأحس بعجز يثقل أطرافه، فاستغاث بمتولي . لكن الخادم، وقد غلبه الرعب، أدار ظهره وفرّ، تاركاً سيده الصغير وحده. ازدادت قوة مارد وهو يرى الميدان قد خلا، واقتربت المسافة بينه وبين الصبي. عيناه تتقدان كالجمر، وشعره منتصب كالإبر، ونَفَسُه اللاهث يشتعل غضباً.
وقف الاثنان في مواجهة صامتة، كأن الزمن توقف. طفل غِرٌّ يتحدى القدر، وكلب مسعور يرى فيه قاتلاً محتملاً. ثم اندفع مارد في هجومه الأخير، لكن متولي ، وقد التهب داخله بخوف هائل، رمى بحجر كبير شق رأس الكلب. ترنح مارد ، والدم يغطي وجهه، يسيل على عينيه ستاراً أحمر. حاول النهوض، لكنه فقد توازنه، و تدحرج من قمة التل حتى أسفله، واستقر ساكناً بلا حراك.
تسمر الغلام في مكانه، يحدق في الجثة، كأنما لا يصدق أنه صار قاتلاً. تبع بعينيه خط الدم المرسوم من القمة حتى السفح، فخيّل له أنه نهر من دماء أو شعلة من نار. جلس يرتجف، شاحب الوجه، وقد بدت عليه صفرة الموت.
عاد أبو عرب من قطيعه، فإذا بالخيمة تعج بالندب والعويل. دخل مسرعاً يسأل: "ما الخبر؟" فلم يجبه أحد. التفت يبحث عن أبنائه، فوجَدَهم جميعاً، لكن قلبه اهتدى إلى الحقيقة: مارد مفقود. صاح في وجوم: "أين مارد ؟"
صمتوا، فأدرك. "إذن هو الذي تندبونه؟ وكيف مات؟"
اقتربت منه زوجته، تحاول أن تخفف وقع الخبر، وسردت عليه القصة كاملة. كان يستمع في وجوم كالصخر، حتى إذا انتهت، تبدلت ملامحه، واشتعل الغضب في وجهه. صرخ قائلاً:
"أقسم برأس أبي ثلاثاً لأقتلنه، وبالطريقة ذاتها التي قُتل بها مارد ."
انقضت الأشهر، ونسِي الناس جميعا الحادثة. لكن أبو عرب ظلّ يتربص بالصبي ، يطوف حول سراي السيد مارد كما يطوف الذئب حول فريسته. كان الليل إذا أرخى سدوله، وغرقت القرية في صمت كالقبر، يتسلل أبو عرب في الظلام، يراقب البيت من بعيد، ويعد الأيام انتظاراً للساعة الموعودة.
وفي ليلة موحشة، خرج متلثماً بشاله الأبيض، يحمل في عبّه أحجاراً حادة كالمناجل. كانت ثقيلة في يده لكنها أخف من حمل قسمه. عبر السور بخفة مدهشة، كأنه ظلّ، وتسلّق شجرة كثيفة الأغصان تطل على نافذة الغرفة حيث ينام متولي . كمَن بين الفروع، يترقب اللحظة، عيناه تلمعان كعيني صقر جائع.
طال انتظاره، حتى دخل الغلام غرفته، يلهو ثم يخرج، لا يستقر في مكان. كانت يد أبي عرب تتحسس الأحجار بعصبية. وأخيراً جاءت الأم تحمل ولدها، فأجلسته في السرير، وقبّلته بحرارة. التف بذراعيها، يقبلها ويضحك، وهي تضمّه إلى صدرها بعبادة لا توصف. أخذت تغني له، تدور به في الغرفة، وهو يتدلّى من عنقها كزهرة ناعسة، يغمض عينيه مطمئناً في دفء صدرها.
من مكانه بين الفروع، راقب أبو عرب المشهد بحرص. شعر بغصة في حلقه، وحجرٌ من عبّه سقط على الأرض دون أن ينتبه. استبدّ به الوجوم، كأن قلبه يئن تحت وطأة صراع غامض. وحين نام الغلام، وأرقدته أمه، وغادرَت الغرفة، بقي الطفل وحده نائماً، يبتسم في حلمه كأنه ملاك صغير.
نظر أبو عرب طويلاً إلى تلك الابتسامة، فارتجف قلبه. شعر كأن خنجراً ينغرس في صدره، لا من يد الغلام، بل من أعماق ضميره. فجأة هبط من الشجرة مسرعاً، يعدو في الليل هارباً من نفسه. عاد إلى خيمته يلهث، وقبل أن يلتقط أنفاسه، انقضّ على ولده الصغير الذي في عمر متولي ، واحتضنه بقوة، يقبله بدموع ساخنة تنهمر من عينيه.
كان قسمه القديم يتفتت في داخله، وتتحول رغبته في الثأر إلى ندم ينهش قلبه. لقد شعر لأول مرة أن الحياة ليست ثأراً، وأن الكلب الذي أحبه لم يكن سوى ظلّ لحنانه المكبوت، أما ابنه، فقد صار هو ملاذه الأخير، والبراءة التي أنقذته من أن يصير قاتلاً.