أصوات جديدة تريد أن تنال لقب مطرب ومطربة
لم يكن الأسبوع الماضي أسبوعاً عادياً في أروقة المعهد العالي للموسيقى المسرحية؛ فقد امتلأت القاعات والطرقات بأحلام ثلاثة وثلاثين هاوياً للطرب والغناء، جاؤوا يحملون أوتار أصواتهم المجهدة وأحلامهم الوردية في أن يصيروا مطربين كباراً، أو على الأقل أن يتغنّى بأسمائهم مقهى صغير في حي شعبي.
ثلاثة عشر منهن فتيات، أما البقية فهم رجال لا يعرفون إن كانوا قد أتوا ليغنوا أم ليختبروا قوة أعصاب اللجنة التي تواجههم.
كل متقدم كان يظن في سره أنه سيحصد الدرجات كاملة، وأن أعضاء اللجنة سيتدافعون لتسجيل اسمه في دفاتر التاريخ، لكن ما إن وقف أحدهم أمام اللجنة حتى سقطت الأقنعة: الصوت يتبخر، النغمة تهرب، والرجفة تسكن الأوتار قبل الحناجر.
لجنة الامتحان:
أمام هؤلاء المتحمسين جلست اللجنة بوجوه صارمة تحمل في داخلها شيئاً من السخرية المبطنة:
• الدكتور الحفني، عميد المعهد وصاحب النظرات النافذة.
• الأستاذ القصبجي، معلّم الصوت والأداء الشرقي، الذي لا يبتسم إلا حين يرى كارثة موسيقية تستحق التأمل.
• المسيو بافيادس، مدرس الصولفيج والبيانو، رجل يشبه آلة موسيقية لا تعرف المزاح.
• المايسترو برونتي، مدرس الفيولنسيل، الذي يتكلم بالعربية كما يغني بعض الطلبة: متقطعاً ومهتزاً.
• وأخيراً محمد علي سليمان، أستاذ القواعد الشرقية، الذي يتخذ من السخرية فناً ومن التعليق اللاذع وسيلة للتعليم.
مغنٍ بالعود… وصوت مفقود
من بين المتقدمين، برز شاب يُدعى سعد عبد اللطيف عبد الفتاح، جاء يحمل عوده كما يحمل الفارس درعه. انهمك في إصلاح أوتاره أمام اللجنة، وكأننا في ورشة لا في امتحان. عندها قال له أحد الأعضاء بنبرة حادة:
"يا بني، نحن نريد أن نسمع صوتك لا عودك… وفر علينا سماع خشخشة الأوتار."
فما كان من سعد إلا أن ترك عوده جانباً وأنشد مونولوج عبد الوهاب الشهير: "على غصن بان عصفورتان"، غير أن العصفورتين هربتا قبل أن يكمل البيت الأول!
سكر نبات… وحلاوة زائدة
أما طالب آخر فقد طلبت منه اللجنة أن يغني، فأشار إلى فمه وهو يقول:
"حاضر… بس لما تدوب."
اتضح أنه يضع قطعة سكر نبات ليكسب صوته حلاوة وطراوة، وكأن الغناء يُصنع في دكان بقالة لا في حنجرة.
أربعون عاماً… وطلب التحاق
ولأن الطموح لا يعترف بالعمر، ظهرت سيدة في الأربعين تُدعى فاطمة محمود لاشين، تقدمت بخطى واثقة لتغني لحناً لبنانياً يبدأ بـ:
"يا جارة جلبي… ويل جلبي بيألمني."
لم تحتمل اللجنة المشهد طويلاً، فأشار إليها أحدهم قائلاً:
"يا سيدتي… ربما تجدين في محطة الإذاعة ما تبحثين عنه، أما هنا فالقانون لا يقبل أكثر من أربعة وعشرين عاماً."
ابتسمت السيدة بحزن، وكأنها اكتشفت متأخرة أن الشباب لا يُستعاد بالأغاني.
ممثل ومطرب… على المسرح وفي اللجنة
ومن بين الوجوه أيضاً، كان هناك صلاح سرحان، ممثل بفرقة المسرح الحديث وخريج معهد التمثيل، جاء يريد أن يثبت أنه قادر على الجمع بين التمثيل والغناء. غنى قصيدة عبد الوهاب "شجي الليل"، وكان يلوح بيديه ويتمايل بجسده ليؤكد أنه ممثل أيضاً.
أحد أعضاء اللجنة تمتم: "يا بني… نحن نريد صوتاً يغني لا مسرحية صامتة."
طالب وملحن… على طريق الفشل
أما الطالب حين ياقوت محمد، فقد قرر أن يتحدى الكبار ويعرض على اللجنة مقطوعة من تلحينه الخاص. عزف وغنى وكأنه يريد أن يكون عبد الوهاب جديداً، لكن النتيجة أقرب إلى تمارين موسيقية تجريبية تصلح لمعرض فن تشكيلي لا لمسرح غنائي.
سيدة علي… والأصابع الثقيلة
وقفت الطالبة سيدة علي أمام البيانو لتحديد مقامات صوتها، لكن بدا وكأنها في سباق مع الآلة. كلما عزف الأستاذ مقاماً حاولت أن تسبقه، حتى إذا بلغت آخر مقام انطلقت بلا توقف.
ابتسم الدكتور الحفني وقال: "كفاية يا ستي."
وأضاف القصبجي ساخراً: "أحسن بعدين تكسري البيانو!"
فاطمة عبد العزيز… وغناء ضد التيار
وأخيراً، جاءت الطالبة فاطمة عبد العزيز أبو زيد، وقد اختارت نشيد أسمهان: "أنا بنت النيل أخت الهرم."
ما إن انتهت من الشطر الأول حتى عاجلها الدكتور الحفني ساخراً:
"يا بنتي… نحن تركنا محمد علي من سنتين."
وأضاف القصبجي بنبرة لاذعة: "أنتِ بتغني للي طردناه."
بين الطموح والخيبة
هكذا مرّ أسبوع الامتحانات في المعهد: أصوات ترتجف، وأحلام تتبخر، وضحكات مكتومة خلف مكاتب اللجنة. فالمعهد، في نظر المتقدمين، بوابة المجد، لكنه في نظر اللجنة، مسرح كوميدي يومي، تخرج منه عشرات الطموحات الخاطئة محمولة على أكتاف أصحابها.
أما الحقيقة التي لم يدركها هؤلاء الهواة فهي أن الغناء ليس مجرد قطعة سكر نبات ولا عوداً يُصلح على عجل، ولا تمثيلاً يتمايل على المسرح. الغناء روح وصوت وتعبير، ومن لم يملك هذه الثلاثة فعليه أن يكتفي بالغناء في الحمام حيث يجد جمهوره الوحيد: صدى صوته.
ماذا لو أرينا اختبارات لمطربي هذا الجيل .