تقديم الخبر على المبتدأ:
دراسة نحوية بلاغية
تمهيد
الجملة الاسمية في اللغة العربية تتكوّن من المبتدأ والخبر. والأصل أن يتقدّم المبتدأ على الخبر، لكن الاستعمال العربي كثيرًا ما يقتضي تقديم الخبر على المبتدأ إمّا وجوبًا أو جوازًا، تبعًا لقواعد نحوية واعتبارات بلاغية.
في هذا الدرس سنعرض مواضع وجوب تقديم الخبر ومواضع جوازه، مع شواهد من القرآن الكريم والشعر العربي، ثم نختم ببيان الأغراض البلاغية لهذا التقديم.
أولاً: مواضع وجوب تقديم الخبر
1. إذا كان المبتدأ نكرة غير مخصّصة
لا يصح الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ، فإذا جاء المبتدأ نكرة والخبر شبه جملة (جار ومجرور أو ظرف)، وجب تقديم الخبر.
• مثال: فوق الطاولة كتابٌ، ولا يصح أن نقول: كتابٌ فوق الطاولة.
• ومن القرآن الكريم:
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة: 179).
فقد تقدّم الخبر (لكم) على المبتدأ (حياةٌ)؛ لأن "حياة" نكرة غير مخصّصة.
2. إذا كان المبتدأ مرتبطًا بضمير يعود على الخبر
• مثال: في المدرسةِ تلاميذُها، حيث الضمير (ها) في "تلاميذها" يعود على "المدرسة"، وهو جزء من الخبر.
• ومن القرآن الكريم:
﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: 7).
3. إذا كان الخبر له الصدارة
يقصد بذلك ألفاظ لها حق التقديم، مثل أسماء الاستفهام.
• مثال: أين الكتابُ؟ ولا يصح: الكتابُ أين؟
• ومن القرآن الكريم:
﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (إبراهيم: 10).
4. إذا كان الخبر محصورًا في المبتدأ
• مثال: ما في الغرفة إلا عليٌّ.
• ومن القرآن الكريم:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ (آل عمران: 144).
5. إذا ورد الخبر في مثلٍ
الأمثال جُمَلٌ جارية على الألسن كالنصوص الثابتة، فلا يجوز تغيير تركيبها.
• مثال: للذهب ثمنٌ، وللحكمة لا ثمن لها.
ثانياً: الأغراض البلاغية لتقديم الخبر
يأتي تقديم الخبر أحيانًا لا لوجوب نحوي، بل لغرض بلاغي يضيف معنى خاصًّا، ومن هذه الأغراض:
1. التخصيص: لإزالة اللبس عن ذهن السامع.
o مثال: قائمٌ عمرُ، أي ليس كما يظن السامع أنّ عمر قاعد.
2. الافتخار:
o قول الشاعر:
عربيٌّ أنا، ما حييتُ وإنني لفخرٍ بهذا النسبِ المتأصّلِ
3. التفاؤل أو التشاؤم:
o مثال: ناجحٌ زيادٌ، أي التفاؤل له بالنجاح.
ثالثاً: مواضع جواز تقديم الخبر
1. إذا كان الخبر شبه جملة والمبتدأ معرفة
• مثال: فوق السطح زيدٌ.
• ومن القرآن الكريم:
﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ (البقرة: 7).
2. إذا كان معنى الخبر يستحق الصدارة
• مثال: ممنوعٌ الدخولُ.
• ومن الشعر:
مسموحٌ وجهُك في العيونِ وإن نأت دارٌ، فحبُّك في الفؤاد مقيمُ
3. إذا سُبقت الجملة بأداة استفهام أو نفي والخبر وصف
• مثال: أمسافرٌ أنتَ؟
• ومن القرآن الكريم:
﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ (البقرة: 10).
خاتمة
إن تقديم الخبر على المبتدأ ليس خرقًا للقاعدة الأصلية للجملة الاسمية، بل هو تنويع نحوي وبلاغي يخدم المعنى، ويُبرز المقاصد، ويزيل اللبس، ويمنح الكلام قوةً ومرونةً. وقد تجلّت هذه الظاهرة في القرآن الكريم وفي روائع الشعر العربي، مما يدلّ على قدرة العربية على التصرّف في الأسلوب لتحقيق الدقة والبيان.