اضطراب النشوة الجنسيّة عند النساء: مقاربة طبيّة نفسيّة اجتماعيّة فلسفيّة

اضطراب النشوة الجنسيّة عند النساء: مقاربة طبيّة نفسيّة اجتماعيّة فلسفيّة
المقدمة تُعَدّ النشوة الجنسيّة (Orgasm) إحدى الركائز الأساسيّة للتجربة الجنسيّة البشرية، ليس فقط بوصفها استجابة جسديّة، بل باعتبارها ظاهرة نفسيّة–اجتماعيّة معقّدة تحمل دلالات تتجاوز المتعة الفردية إلى التأثير في الصحة النفسيّة والعلاقات الزوجية وجودة الحياة. ويُعَرَّف اضطراب النشوة الجنسيّة عند النساء بأنّه تأخّر أو غياب متكرّر في الوصول إلى الذروة الجنسيّة، رغم توافر التحفيز الجنسي الكافي، ورغم وجود الإثارة النفسيّة والجسديّة المناسبة. هذا الاضطراب يطرح تحدّيات طبيّة ونفسيّة واجتماعيّة متشابكة، ويثير أسئلة فلسفيّة حول الجسد واللذة والهوية والعلاقات الإنسانية. تشير الدراسات إلى أنّ حوالي 10% من النساء لا يصلن إطلاقًا إلى النشوة الجنسيّة، في حين تواجه نسبة تتراوح بين 25–30% صعوبة متكرّرة في بلوغها (Laumann et al., 1999؛ Brotto, 2018). ورغم أنّ كثيرًا من النساء يعتبرن النشاط الجنسي مُرضيًا حتى دون الوصول إلى النشوة، إلا أنّ الاضطراب يتحوّل إلى مشكلة إكلينيكيّة عندما يصبح مصدر إحباط ومعاناة نفسيّة أو يؤثّر سلبًا في العلاقة الزوجيّة. أولاً: الخلفية الطبيّة 1. الفسيولوجيا الجنسيّة الاستجابة الجنسيّة عند المرأة تمرّ بمراحل: الرغبة – الإثارة – الذروة – الارتخاء. وتلعب مناطق متعدّدة دورًا في الوصول للنشوة، أبرزها البظر الذي يُعَدّ نظيرًا للقضيب عند الرجل، حيث تؤكّد الأبحاث أنّ أكثر من 70% من النساء يحتجن إلى تحفيز البظر المباشر أو غير المباشر للوصول إلى النشوة (Levin, 2011). 2. الأسباب العضويّة قد يرتبط اضطراب النشوة بأمراض جسديّة متعدّدة، مثل: • داء السكّري وتأثيره على الأعصاب الطرفيّة. • التصلّب المتعدّد وإصابات النخاع الشوكي. • تشوّهات الأعضاء التناسليّة أو العمليات الجراحيّة النسائيّة. • الأدوية، وخاصة مثبّطات استرداد السيروتونين الانتقائي (SSRIs) التي قد تؤثّر مباشرة في القدرة على بلوغ الذروة. ثانيًا: الأبعاد النفسيّة 1. الاضطرابات النفسيّة • الاكتئاب والقلق واضطرابات المزاج تعدّ من أبرز العوامل المعيقة للنشوة. • الصدمة النفسيّة (خصوصًا الاعتداء الجنسي) تترك آثارًا عميقة على استجابة المرأة الجنسيّة. 2. أنماط الشخصية بعض الشخصيات القلقة أو المهووسة بالسيطرة تجد صعوبة في الاستسلام لأحاسيس الذروة. فالخوف من "فقدان السيطرة" أو "التعرّي العاطفي" يجعل النشوة تجربة مرعبة أكثر من كونها ممتعة. ثالثًا: العوامل الاجتماعية والعلاقة الزوجية • ضعف التواصل الجنسي بين الشريكين، إذ تجهل بعض النساء نوع اللمس أو التحفيز الذي يثيرهنّ، أو يخجلن من التعبير عنه. • الممارسات الجنسية السريعة (سرعة القذف عند الرجل أو غياب المداعبة الكافية) تعيق وصول المرأة للنشوة. • الخلافات الزوجية وفقدان الثقة تقلّل من الإشباع الجنسي وتفاقم المشكلة. • الصور النمطية الثقافية التي تعتبر لذّة المرأة "تابو" أو "عيب" قد تزرع شعورًا بالذنب يمنع الاستجابة الطبيعية. إحصائيًا، أظهرت دراسة عالمية (WHO, 2020) أن النساء في المجتمعات التي تهيمن عليها القيود الثقافية الصارمة حول الجنس أكثر عرضة للإصابة باضطرابات النشوة بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بنحو 25% في المجتمعات الأكثر انفتاحًا. رابعًا: الشيخوخة والتحولات الهرمونية مع تقدّم العمر، تنخفض مستويات الإستروجين والتستوستيرون، ما يؤدي إلى تغيّرات مثل: جفاف المهبل، ضعف مرونة الأنسجة، تراجع تدفق الدم للأعضاء التناسليّة. هذه التغيرات ترفع احتماليّة اضطرابات النشوة عند النساء بعد سنّ اليأس، حيث تشير بيانات الجمعية الأمريكيّة للطب الجنسي (ASHA, 2021) إلى أنّ نحو 35–45% من النساء بعد سنّ الخمسين يعانين من درجات متفاوتة من اضطراب النشوة. خامسًا: الأبعاد الفلسفية اضطراب النشوة ليس مجرّد خلل جسدي أو نفسي، بل هو سؤال فلسفي حول معنى المتعة، والجسد، والسيطرة. • فوكو يرى أن الخطاب حول الجنس ليس بريئًا، بل يخضع لأنظمة السلطة والمعرفة. • من منظور الظاهراتية (Phenomenology)، النشوة ليست حدثًا بيولوجيًا فقط، بل تجربة "جسدية–وجودية" تتعلق بعلاقة الإنسان بذاته وبالآخر. • فلسفيًا، يمكن النظر إلى اضطراب النشوة كـ "اغتراب" عن الجسد وعن تدفق الحياة الطبيعية. سادسًا: التشخيص والمعايير الإكلينيكية وفق الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5، يتم تشخيص اضطراب النشوة الجنسيّة عند النساء إذا: 1. تكرر أو استمرّ غياب النشوة أو تأخرها. 2. استمرّ ذلك لستة أشهر على الأقل. 3. سبب ضائقة نفسيّة ملحوظة للمرأة. سابعًا: العلاج والتدخلات 1. العلاج الطبي • تعديل الأدوية المسببة (خاصة SSRIs). • استخدام الهزاز أو وسائل التحفيز الكهربائي العصبي. • العلاج الهرموني (إستروجين موضعي أو فموي، وفي بعض الحالات التستوستيرون). 2. العلاج النفسي • العلاج المعرفي السلوكي (CBT) لتصحيح الأفكار المشوّهة حول الجنس. • العلاج بالذهن (Mindfulness-Based CBT) لمساعدة المرأة على الانتباه للأحاسيس اللحظية. • العلاج الزوجي الجنسي لتحسين التواصل بين الشريكين. 3. إعادة التأهيل الجنسي • تمارين التركيز الحسّي (Sensate focus) التي تشجّع الأزواج على اللمس التدريجي بعيدًا عن هدف الإيلاج. • التثقيف الجنسي حول تشريح الأعضاء التناسليّة ووظائفها. ثامنًا: أمثلة واقعية 1. حالة س.م (35 عامًا): متزوجة منذ 10 سنوات، لم تبلغ النشوة أبدًا رغم رغبتها الجنسية. بعد جلسات CBT وتمارين حسّيّة مشتركة مع زوجها، أبلغت بتحسن ملحوظ بعد 4 أشهر. 2. حالة ن.ر (50 عامًا): تعاني من جفاف مهبلي بعد سن اليأس، أدّى لانقطاع المتعة الجنسية. بعد إدخال العلاج الموضعي بالإستروجين والهزاز، استعادت النشوة تدريجيًا. تاسعًا: الإحصاءات الحديثة • دراسة في الولايات المتحدة (Brotto, 2018): 28% من النساء بين 18–49 عامًا يعانين من صعوبة متكررة في بلوغ النشوة. • تقرير الجمعية الأوروبية للصحة الجنسية (2022): 40% من النساء في أوروبا أفدن بتجربة صعوبات مرتبطة بالنشوة على الأقل مرة واحدة في حياتهن. • دراسة عربية (العييري وآخرون، 2021): نسبة اضطراب النشوة في عينة نساء من الخليج بلغت 32%، مع ارتباط وثيق بعوامل ثقافية–اجتماعية. عاشرًا: التوصيات 1. التثقيف الجنسي المبكر للنساء والرجال لكسر الصمت الثقافي حول المتعة. 2. دمج العلاج النفسي مع الطبي لتقديم رؤية شمولية. 3. تشجيع البحث العربي في مجال الاضطرابات الجنسية الذي ما زال محدودًا. 4. النظر إلى اضطراب النشوة كظاهرة إنسانية–وجودية تتطلب مقاربة تتجاوز الجسد إلى النفس والعلاقة والمجتمع. الخاتمة اضطراب النشوة الجنسيّة عند النساء يتجاوز كونه خللاً وظيفيًّا إلى كونه تحدّيًا متشابكًا بين الطبّ والنفس والمجتمع والثقافة والفلسفة. إذ تتداخل الأبعاد البيولوجية مع الاضطرابات النفسية والعلاقات الزوجية، وتنعكس على التجربة الوجودية للمرأة. إنّ مقاربة هذا الاضطراب تتطلّب وعيًا متعدد الاختصاصات، يوازن بين العلاج الطبي والدعم النفسي والتمكين الاجتماعي، بما يضمن للمرأة استعادة علاقتها الطبيعية بجسدها ومتعتها وحياتها العاطفية. المراجع مراجع عربية 1. العييري، ن. (2021). الاضطرابات الجنسية لدى المرأة العربية: دراسة اجتماعية–نفسية. مجلة دراسات المرأة العربية، 12(2)، 44–67. 2. منصور، ه. (2019). الصحة الجنسية بين الطب والمجتمع. القاهرة: دار الفكر العربي. 3. بدوي، م. (2020). الجنس والهوية في المجتمعات العربية. بيروت: المركز الثقافي العربي. مراجع أجنبية 1. Brotto, L. A. (2018). Better Sex through Mindfulness. Greystone Books. 2. Laumann, E. O., Paik, A., & Rosen, R. C. (1999). Sexual dysfunction in the United States. JAMA, 281(6), 537–544. 3. Levin, R. J. (2011). The physiology of female sexual arousal. Annual Review of Sex Research, 22, 1–25. 4. World Health Organization (WHO). (2020). Sexual health and its linkages to reproductive health. Geneva. 5. American Sexual Health Association (ASHA). (2021). Female sexual dysfunction: prevalence and treatment.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال