أسباب اختفاء مقبرة نفرتيتي:
انفصالها عن إخناتون أم مؤامرة على العرش؟
تُعد الملكة نفرتيتي إحدى أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ مصر القديمة، إذ ارتبط اسمها بعصر العمارنة وبالثورة الدينية التي قادها زوجها إخناتون. غير أن هذا الحضور الطاغي في النصوص والنقوش سرعان ما خبا، لتختفي فجأة من المشهد التاريخي، تاركة وراءها ألغازًا عديدة، من أبرزها مصير مقبرتها. وقد تعددت النظريات بين من يرى أن مقبرتها لا تزال مخفية في وادي الملوك، ومن يعتقد أنها اندثرت بفعل صراعات سياسية وأسرية، وصولاً إلى فرضيات حول نفيها أو اغتيالها. إن دراسة هذه القضية لا تقتصر على البعد الأثري وحده، بل تنفتح على أبعاد فلسفية ونفسية تتصل بمفهوم الذاكرة التاريخية، وبكيفية تعامل السلطة مع خصومها أو شركائها السابقين.
أولاً: النظريات الأثرية المختلفة حول موقع مقبرة نفرتيتي
1. مقبرة توت عنخ آمون
طرح عالم المصريات البريطاني نيكولاس ريفز عام 2015 نظرية شهيرة مفادها أن مقبرة نفرتيتي تقع خلف جدران مقبرة الملك توت عنخ آمون، حيث افترض وجود غرفتين سريتين لم تُكتشف بعد. وقد أثارت هذه النظرية ضجة واسعة، غير أن الفحوصات باستخدام الرادار لم تثبت وجود غرف إضافية، مما دفع بعض الباحثين إلى وصفها بـ"الفرضية غير المثبتة" [Reeves, 2015].
2. وادي الملوك الغربي
على النقيض، يرى عالم الآثار المصري زاهي حواس أن نفرتيتي دُفنت في مكان آخر، ربما في وادي الملوك الغربي، مشككًا في رواية ريفز ومؤكدًا غياب أي دليل علمي قاطع على وجود مقبرة خلف جدران مقبرة توت عنخ آمون [Hawass, 2021].
3. مقابر العمارنة
ثمة من يذهب إلى أن نفرتيتي قد دُفنت في العمارنة نفسها، حيث أسس إخناتون عاصمته "أخيتاتون". غير أن عمليات النبش والنقل و السرقة التي تعرضت لها المنطقة منذ العصور القديمة تجعل العثور على أدلة مؤكدة أمرًا معقدًا.
ثانياً: اختفاء نفرتيتي من السجلات التاريخية
1. النفي أو المرض
ترجّح بعض الروايات أن نفرتيتي قد نُفيت لأسباب سياسية ، أو أصابها مرض قاتل في السنوات الأخيرة من حكم إخناتون ، ما يفسر غيابها من النصوص الرسمية المسجلة على جدران المعابد. ويعكس هذا الغياب سياسة متعمدة لمحو أثرها من الذاكرة الملكية .
2. الصراع على العرش
تشير مصادر أخرى إلى احتمال أن تكون نفرتيتي قد تولت الحكم لفترة قصيرة جدا باسم ملكي آخر، مثل "سمنخكارع" أو "عنخ خپرورع"، ثم جرى إقصاؤها . هذا السيناريو يعكس طبيعة الصراع على السلطة بعد وفاة إخناتون، حيث كان البلاط المصري يعيش حالة من الارتباك والتمزق بين استمرار عبادة آتون والعودة إلى عبادة آمون السائدة .
ثالثاً: البعد النفسي والفلسفي لاختفاء نفرتيتي
لا يقتصر اختفاء نفرتيتي على كونه حدثًا سياسياً أو أثرياً، بل يتصل كذلك بالبنية النفسية والثقافية للحكم الفرعوني نفسه .
• سيكولوجيا المحو: محو اسم نفرتيتي من النقوش يمثّل شكلاً من " القتل الرمزي "، حيث تُستبعد من الذاكرة الجمعية كعقوبة اجتماعية ونفسية، وهو ما يعكس إدراكًا عميقًا لقوة الذاكرة في تشكيل الشرعية السياسية . ( المؤامرة السياسية ) .
• ثنائية الوجود والعدم: اختفاء المقبرة يثير أسئلة فلسفية حول معنى الخلود في العقيدة المصرية القديمة، حيث كان " الدفن " شرطًا لبقاء الروح. إن غياب قبر نفرتيتي يعكس توتراً بين الحضور الطاغي في الحياة العامة والغياب المطلق في الموت.
• البعد النسوي : كون نفرتيتي امرأة ذات نفوذ، يفتح المجال لتأويلات تتعلق بكيفية تعامل النظام الأبوي مع المرأة القوية التي تنافس على الحكم. فربما كان اختفاؤها انعكاسًا لرغبة المؤسسة السياسية والدينية ( الكهنوت) في تهميش رمز نسوي تجاوز حدود دوره التقليدي .
رابعاً: انفصال نفرتيتي عن إخناتون
تورد موسوعة سليم حسن إشارات إلى خلافات حادة بين نفرتيتي وزوجها إخناتون في سنواته الأخيرة. فقد ارتبط إخناتون بعلاقات غير مألوفة مع أخيه سمنخكارع، كما تشير بعض النقوش، مما ولّد نزاعًا شخصياً وعائليًا. هذا الانفصال قد يكون أحد أسباب محو اسمها، بل وربما إقصائها من القصر إلى ضاحية "ظل رع" مع ابنتها "عنخس إن با آتون" [حسن، 1943].
خامساً: المؤامرة على العرش بعد إخناتون
بعد وفاة إخناتون، اعتلى سمنخكارع العرش بدعم من البلاط، غير أن نفرتيتي – بحسب بعض المصادر – لم تعترف بشرعيته، بل حاولت التواصل مع ملك الحيثيين "شوبيلوليوما" طالبةً أحد أبنائه زوجًا لها وملكًا على مصر. لكن هذه المحاولة انتهت بالفشل إثر مقتل الأمير الحيثي في الطريق. هذه الواقعة تكشف جانبًا نفسيًا وفلسفيًا من شخصية نفرتيتي، فهي لم تكن مجرد ملكة تابعة، بل فاعلة سياسية حاولت إعادة رسم المشهد وفق طموحاتها الخاصة، ما يجعل اختفاءها من السجلات أقرب إلى عملية "تصفية حسابات سياسية".
سادساً: أصول نفرتيتي بين مصر وسوريا
أثارت بعض الدراسات فرضية أن نفرتيتي تنحدر من "رأس العين" (واشوكاني) في شمال سوريا، باعتبارها ابنة لإحدى الأسر الميتانية التي عقدت تحالفًا مع الفراعنة. غير أن هذه الرواية تبقى محل جدل، إذ ينفيها زاهي حواس لغياب الأدلة الأثرية المؤكدة. غير أن مجرد تداولها يعكس البعد النفسي والفلسفي لهوية نفرتيتي: فهي "الجميلة التي أتت"، سواء من مصر أو من خارجها، لتصبح رمزًا للتداخل الحضاري والثقافي.
سابعاً: معنى الاسم والتمثلات الرمزية
يحمل اسم نفرتيتي معنى " الجميلة قد أتت "، وهو معنى يعكس حضورها كعنصر وافد ومتجدد. إن تمثالها النصفي الشهير – المحفوظ في برلين – أصبح أيقونة للجمال والحضور الملكي، لكنه أيضًا رمز لغيابها المادي. فالتمثال شاهد على وجودها التاريخي ، بينما المقبرة المفقودة رمز لغيابها الأبدي . هذه الثنائية بين " الوجه الحاضر " و" المقام الغائب " تمنح القضية بعدًا فلسفيًا يتجاوز حدود البحث الأثري و التاريخي .
خاتمة
يبقى اختفاء مقبرة نفرتيتي واحدًا من أكبر ألغاز علم المصريات. فالنظريات تتراوح بين وجودها في وادي الملوك أو في العمارنة، وبين احتمال محوها عمدًا بفعل صراع على السلطة أو بسبب نزاعات أسرية. لكن الأهم أن هذا الغياب يعكس أبعادًا أعمق من مجرد موقع أثري: فهو يعكس سيكولوجيا المحو في التاريخ، ومفهوم الذاكرة والخلود في الثقافة المصرية القديمة، كما يثير أسئلة فلسفية حول دور المرأة في السلطة.
إن البحث عن مقبرة نفرتيتي ليس مجرد بحث عن حجر أو غرفة مدفونة، بل هو بحث عن إجابة لسؤال أبدي: كيف تتلاعب السلطة السياسية و الدينية بالذاكرة، وكيف تتحول الأجساد الغائبة إلى رموز أبدية في المخيال الإنساني.
قائمة المراجع
• Reeves, N. (2015). The Burial of Nefertiti? Amarna Royal Tombs Project.
• Hawass, Z. (2021). Valley of the Kings: The Tombs and the Funerary Beliefs of the Pharaohs. Cairo: Supreme Council of Antiquities.
• Tyldesley, J. (1998). Nefertiti: Egypt’s Sun Queen. Penguin Books.
• Aldred, C. (1996). Akhenaten: King of Egypt. Thames & Hudson.
• Redford, D. B. (1984). Akhenaten, the Heretic King. Princeton University Press.
• حسن، سليم. (1943). موسوعة مصر القديمة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• Hornung, E. (1999). Akhenaten and the Religion of Light. Cornell University Press.
• Dodson, A., & Hilton, D. (2004). The Complete Royal Families of Ancient Egypt. Thames & Hudson.