أبو نواس:
شاعر النرجسية والمجون
تمهيد:
صورة متناقضة
أبو نواس ليس مجرد شاعر من شعراء التراث العربي، بل هو ظاهرة قائمة بذاتها، عصيّة على التبسيط أو الاحتواء. في شخصه التقت العبقرية الفنية بالانحلال الأخلاقي، وتجاورت البراعة في الصياغة مع التمادي في اللذّة. لذا كان الحديث عنه أشبه بمحاولة القبض على لهب يتوهّج؛ لا يُمدح ولا يُهجى بقدر ما يُفكَّك ويُحلَّل.
لقد وُصف بأنه "إباحي"، غير أن إباحيته لم تكن إباحية عابرة ولا شهوة خفية، بل كانت مجاهرة صاخبة، جعلت من سيرته نصًّا مفتوحًا للتأويل، ومن شعره مرآةً لنرجسية لا تهدأ.
الإباحة المتهتكة:
بين الإخفاء والإظهار
الإباحي العادي يختبئ وراء قناع من التقوى، ويخفي رذيلته في العتمة. أما أبو نواس فقد جعل من المجون رايةً يرفعها في وضح النهار. كان صريحًا، متحديًا، كأنما يريد أن يُحرج المجتمع بمراياه المعوجّة.
قال في الخمر:
ألا فاسقني خمرًا وقل لي: هي الخمرُ ولا تسقني سرًّا إذا أمكن الجهرُ
وقال في عشقه المتبجّح:
الحمد لله أني على حداثة سنّي فقتُ المحبّين طرًّا ببعض ما شاع عني
ثم يزيد في فضح اللذّة:
أطيبُ اللذّاتِ ما كان جهارًا بافتضاح
إنها لذّة مشروطة بالظهور، كأنما الإثم لا يكتمل إلا حين يُعلن على الملأ.
النرجسية:
جوهر الشخصية النواسية
لم تكن مجاهرة أبي نواس في الخمر والغلمان والجواري مجرّد عبث جسدي، بل كانت انعكاسًا لمرضٍ داخلي أعمق: النرجسية. فقد عاش شاعرنا مأخوذًا بصورته، متورطًا في ذاته، باحثًا في معشوقيه عن امتدادٍ لمرآته الداخلية.
النرجسية، كما يصفها المحللون النفسيون، انغلاق الروح على ذاتها حتى يصبح الجسد أو الصورة وثنًا يُعبد. وقد جسّد أبو نواس ذلك بوضوح؛ إذ كان يرى نفسه في معشوقه، فيذوب فيه، لا لأنه "آخر"، بل لأنه "صدى الأنا".
بين الأسطورة والتحليل النفسي
اشتُقّ المصطلح من أسطورة «نرجس» الإغريقية، الفتى الذي هام بوجهه المنعكس في الماء حتى هلك، لتبقى زهرة النرجس شاهدًا على عشق الذات.
وكذلك كان أبو نواس: إذا كان نرجس قد رأى صورته في الماء، فإن أبا نواس رأى صورته في العيون التي هام بها. لم يكن المحبوب عنده إلا نسخةً أخرى من ذاته، صورة مشتهاة لذاته المستترة. كل غزل عنده إسقاطٌ، وكل عشق عودة إلى الأنا الأولى.
لازمة العرض: المجاهرة والتحدي
المجون عند أبي نواس لم يكن مجرد بحث عن متعة، بل كان فعلًا استعراضيًا، مسرحًا عامًا للتمرد. لقد جعل من الجهر بالمعصية لازمةً من لوازمه، وكأن لذّته تنمو كلما ازداد فعل العصيان تحديًا.
قال متحديًا:
وإن قالوا: حرام، قل: حرام ولكن اللذاذة في الحرام
إنها فلسفة المخالفة المعلنة، حيث تتضاعف النشوة بقدر ما يتضاعف الاستفزاز. لم يكن له مذهب عقدي أو ديني، بل كان مذهبه الحقيقي هو مذهب الإعلان.
النرجسية والهوى المزدوج
لم يحصر أبو نواس هواه في الغلمان وحدهم، بل غازل الجواري كذلك، ورأى الجمال وجهًا واحدًا يتجلّى في الجنسين على السواء.
قال في الجمع بينهما:
غلامٌ وإلا فالغلامُ شبيهُها وريحانُ دنيا لذّةٌ للمعانقِ
إنه هوى مزدوج لا يُفهم بحدّ الشذوذ فقط، بل بعمق النرجسية التي تجعل من الذات معيارًا أعلى تُسقطه على كل معشوق، أيًّا كان جنسه.
خاتمة:
أبو نواس مرآة التناقض
أبو نواس ليس شاعر مجون وحسب، بل هو ظاهرة أدبية ونفسية تعكس تناقضات عصره وصراعات ذاته. كانت نرجسيته وقودًا لشعره، وهي التي جعلته:
• يهوى الإعلان أكثر من اللذة.
• يجاهر بالمخالفة أكثر مما يستتر.
• يرى في معشوقه انعكاسًا لصورة ذاته، لا كيانًا مستقلاً.
هكذا تجلّى أبو نواس بوصفه شاعر النرجسية العربية، الذي حوّل نزواته إلى فلسفة شعرية، وشذوذه إلى خطاب أدبي يظل مادة للتحليل النفسي والاجتماعي، لا ينضب عبر العصور.