قتيلة في وضح النهار: خمسون طعنة

قتيلة في وضح النهار: خمسون طعنة
نرجس فتاة في ربيعها العشرين، وردةً تتفتح بين جدران حيّ شعبي مزدحم. جمالها البريء كان فتنةً لشباب الحي إينما سارت ، لكن قلبها لم يعرف سوى غريب، خطيبها المجند في الإسكندرية، الذي قاربت أيام خدمته على الانتهاء. كانت تعيش حياة هادئة، راضية، محاطة بحب أسرتها الصغيرة الأب و الأخ و الأخت ، وعناية جارتها ابتسام التي ربتها منذ رحيل أمها. وجهها كان لوحة من النقاء لوحة فنان طبيعية : خدّ ورديّ، فم كالبندقة، عينان تضيئان زرقتان تضيئ ببريق الحياة، وجسد شاب متوثّب الخطو كربيع مبكر. وحين كانت تمر في الحارة ، و كأنها غزال متوثب الخطو، كان العشاق يتبعونها بالنظرات الحالمة، لكنها كانت تردّهم بابتسامة مقتضبة وهزّة رقيقة من رأسها؛ فكرامتها حصن منيع ضد الناظرين . لكن القدر كان يخبئ لها مأساة كبرى لا تُحتمل الابتسامة الشفافة الأخيرة في صباح عادي، عند التاسعة إلا الربع، فتحت نرجس الباب على طرقات خفيفة. كانت ترتدي قميص نومها الأبيض الشفاف ، وعيناها تضحكان مع ابتسامة عذبة رقيقة . لكن ما إن انفتح الباب حتى غاص النور في عينيها في الظلام: يدٌ غليظة امتدت لتدفعه وتغلق عليها العالم. حاولت أن تصرخ، أن تدافع، لكن الوقت كان قد فات ، فقد وضع الغريب يدها على فمها ، و احتضنها بقوة الجارة والمريبة في الحديقة الخلفية للمنزل، كانت ابتسام تحرق فضلات منزلها. لمحت رجلاً طويل القامة يخفي وجهه، يتجه بخطى مسرعة نحو باب بيت المعلم شعبان، والد نرجس. شيء في مشيته بدا مألوفاً لها، لكن عقلها طرد الفكرة. غير أن القلق ظل ينهشها: لماذا يخفي وجهه؟ ولماذا يختار الباب الخلفي؟ وعند التاسعة والنصف صباحا ، صعد القلق إلى عنقها، و أخذت الوساوس تسيطر على عقلها ، فقررت الاطمئنان على نرجس. طرقت الباب بقوة، فلم تجب. دفعتها ريبة مفاجئة إلى الدخول من الباب شبه المغلق، فوجدت الصالة مقلوبة رأسا على عقب ، والشال الأسود ممزقاً على الأرض . هرعت إلى غرفة النوم لتجد أبشع منظر... وأطلقت صرخة دوّت في الحي كله. نرجس ملقاة على الأرض، عارية تماما ، فقطع تمزق قميص نومها الأبيض الشفاف ، والدم يلطّخ جسدها الممزق الأبيض . طعنات في كل مكان في جسدها البض ، خمسون طعنة، كل واحدة منها كأنها خنجر في قلب الإنسانية. امتلأ البيت برجال القانون ، برجال البوليس والصحافة. الطبيب الشرعي د. علاء انحنى فوق الجثة، قص رباط عنق أخضر ملتف حول رقبتها، ثم قال بصوت حادّ: – " هذا الشيطان خنقها وهو يعتدي عليها، ثم طعنها خمسين مرة... هذا جنون مرضيّ" الملازم الأول ردّ بعزم : "لن يفلت مني. هذه الوحوش الذي تجرد من الانسانية ، لا يختبئون طويلاً " . الأدلة بدأت تتناثر: مدية مضرّجة بالدم ليس بها بصمات ، ساعة رجالي مكسورة الاستيك ، موتوسيكل يتساقط منه الزيت قرب المكان . كل خيط يقود إلى رجل يُدعى حنفي، جارهما القديم، الذي سبق أن حاول الاعتداء على نرجس قبل أشهر وصفعته أمام أخيها ال صغير . المشتبه حين داهموه في خمّارة، وجدوه ثملاً، سترته مكتملة الأزرار لكن يده مجروحة. قال بصوت متثاقل : " زوجتي أوشَت بي لأني عدت للشراب مجددا... أنتم مخطئون." لكن ساعته المعدنية وُجدت تحت سرير نرجس. حين سأله الملازم عنها، تلعثم: – "لا... ليست ساعتي... ربما سقطت بالأمس." ارتبك، ثم صاح بعصبية و نرفزة : "أنتم مجانين! أنا لم أرها منذ نصف عام!" لكن كل التفاصيل كان تفضحه ، زيت موتوسيكل مطابق للزيت الموجود على الأرض ، أزرار محترقة في مدفأته ، الجارة رأت هيئته من الخلف ، ثم من وجهه المغطى ، بصماته على زجاجة اللبن التي جاءت بها نرجس في صباح الجريمة. شخصية المجرم حنفي لم يكن مجرد عابر سبيل ، بل كان بركان كبتٍ وانحراف. رجل هشّ، تافه في أعماقه، ينهش الغيرة كبده، ويغذّي الشرّ ضعف شخصيته. جمال نرجس أشعل داخله رغبة مريضة لم يحتملها، لقد كانت له وردة تستحق القطف ، و ليس زوجته الخالية من الأنوثة . لم يكن يبحث عن حب أو قرب ، بل عن تملك ودمار. وحين صدّته بصفعة قوية على وجهه ، تحولت رغبته إلى ثأر مظلم ، إلى بركان من الغضب . إنه نموذج للمجرم المهووس: خليط من الانحراف الجنسي والعدوانية، يخشى الفضيحة لكنه يتلذذ بالعنف. طعناتها الخمسون لم تكن رغبة في القتل بقدر ما كانت طقساً شيطانياً يسكب فيه حقده ودماءه الداخلية. وقف محاني الدفاع ليطالب بمعالجة المتهم نفسيا في إحدى مستشفيات العلاج النفسي . و لكن المدعي العام بعد أن فند الجريمة و أركانها ، طالب بأقصى عقوبة ، و هى الاعدام . و وقف القاضي كالجبل الشامخ، وصوته يرتجف بالغضب : "هذه جريمة قتل من الدرجة الأولى، جريمة ضد البراءة والإنسانية. خمسون طعنة ليست إلا خمسين شاهداً على وحشيتك " ." ثم أصدر حكمه: السجن 150 عاماً. غاب وجه حنفي و أظلمت بين جدران الزنزانة، لكن ظلّ نرجس باقياً أمامه يعذبه ، وردة ذُبحت في وضح النهار حين بدأت الشمس ترسل أشعتها ، لتظل قصتها جرحاً مفتوحاً في ذاكرة الحي كله ، وصرخة في وجه كل انحراف يختبئ تحت قناع رجل. قد تخلت عنه الانسانية و الشهامة .

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال