كهف الرقيم: دراسة دينية تاريخية فلسفية
تمثل قصة أصحاب الكهف – أو فتية الإيمان – إحدى أبرز القصص الدينية ذات الأبعاد الروحية والتاريخية والفلسفية. فقد ارتبطت هذه القصة بالقرآن الكريم ارتباطًا وثيقًا، كما وجدت لها صدى في المسيحية المبكرة. وتبقى مسألة تحديد موقع الكهف موضوعًا للبحث والنقاش بين المؤرخين وعلماء الآثار واللاهوتيين.
ومن أبرز المواقع التي يُرجح أن تكون هي الكهف المذكور في القرآن الكريم ما يُعرف اليوم بـ كهف الرقيم الواقع في قرية الرجيب، شرق العاصمة الأردنية عمّان.
أولاً: التسمية
جاء اسم "الرقيم" من الفعل العربي "رَقَمَ" الذي يعني الخطّ أو الكتابة. وقد فسّر المفسرون هذا الاسم بعدة دلالات:
• أنه يشير إلى اللوح أو الكتاب الذي سُطرت عليه أسماء الفتية.
• أو أنه يدل على القرية أو الجبل الذي يقع فيه الكهف.
ويذكر الطبري في تفسيره أن الرقيم هو "الكتاب الذي كُتبت فيه أسماء أهل الكهف". كما يُرجّح أن اسم القرية الأصلي هو "الرقيم" وقد تحوّر مع الزمن إلى "الرجيب".
ثانياً: الاكتشاف الحديث
اكتُشف الكهف سنة 1951م على يد الصحفي تيسير ظبيان الذي نشر أول صورة له في مجلة "الشرطة العسكرية السورية". ثم أبلغ دائرة الآثار الأردنية، حيث أوكلت مهمة التنقيب إلى عالم الآثار رفيق الدجاني بالتعاون مع "كشافة الرسول الأعظم". ومنذ ذلك الوقت أضحى الكهف موضوعًا للبحث الأثري واللاهوتي.
ثالثاً: القصة في القرآن الكريم
وردت قصة أصحاب الكهف في سورة الكهف (الآيات 9–26)، حيث خُلد ذكرهم كرمز للتضحية والإيمان. وقد لجأ الفتية إلى الكهف هربًا من طغيان الملك دقيانوس، واعتزلوا قومهم حفاظًا على عقيدتهم، فضرب الله على آذانهم سنوات طويلة.
تميزت الرواية القرآنية بعدة أبعاد:
• البعد العقدي: تأكيد التوحيد ورفض الشرك.
• البعد الغيبي: بيان أن علم عددهم ومدة لبثهم غيبٌ عند الله.
• البعد الرمزي: الشمس التي تزاور عن كهفهم، دلالة على عناية إلهية.
رابعاً: القصة في المسيحية
عرفت المسيحية هذه القصة تحت مسمى الفتية السبعة أو "النيام السبعة" (Seven Sleepers). ووفقًا للسنكسار القبطي (20 مسرى)، فإن هؤلاء الفتيان كانوا من أتباع المسيحية فرّوا من الاضطهاد الوثني في عهد الإمبراطور ديقيانوس، واستشهدوا في كهف بمدينة أفسس عام 252م. وفي عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني عُثر على سيرتهم منقوشة على لوح نحاسي بعد 309 سنوات. وتُورد النصوص المسيحية أسماءهم، مثل: مكسيمليانوس، يمليخا، ديونيسيوس، وغيرهم.
خامساً: الأدلة التاريخية والأثرية
1. الأدلة التاريخية
وردت إشارات في مصادر إسلامية إلى زيارة بعض الصحابة لموقع الكهف في جبل الرقيم بالأردن، مثل عبادة بن الصامت وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان. كما أشار الواقدي إلى معرفتهم بالمكان.
2. الأدلة الأثرية
• وجود بقايا كنيسة بيزنطية فوق الكهف تحوّلت لاحقًا إلى مسجد في العصر الإسلامي.
• العثور على سبعة أعمدة دائرية غير مكتملة، ومحراب نصف دائري فوق باب الكهف.
• وجود بئر ماء داخل المسجد، دُوّن على جدرانه نصوص تشير إلى ترميمه في أعوام 117هـ، 277هـ، و900هـ.
• العثور على ثمانية قبور محفورة في الصخر داخل الكهف، وجمجمة كلب يُحتمل أنها ترمز إلى "كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد".
• اكتشاف عملات معدنية وأوانٍ فخارية وخواتم وأساور تُعزز الصلة بالعصر الروماني والبيزنطي.
3. الأدلة الجيولوجية
أثبتت الفحوصات التي أجراها المهندس الجيولوجي ناظم الكيلاني أن تربة الكهف غنية بالكالسيوم والمغنيسيوم وعناصر مشعة مثل الراديوم، مما يساهم في حفظ الأجساد ومنع تحللها، وهو ما قد يفسر بقاء الفتية محفوظين قرونًا طويلة.
سادساً: الأبعاد الفلسفية والدينية
قصة أصحاب الكهف تحمل في طياتها دلالات عميقة:
• البعد الوجودي: الإنسان في مواجهة الطغيان، واختياره الحر للهروب بالإيمان بدل الخضوع.
• البعد الزمني: انقطاع الفتية عن الزمن البشري المألوف يثير تساؤلات فلسفية حول طبيعة الزمن ونسبيته.
• البعد الرمزي: نومهم الطويل يعكس الموت المؤقت والبعث، في إشارة واضحة إلى حقيقة البعث يوم القيامة.
• البعد المقارن: التشابه بين الرواية الإسلامية والمسيحية يدل على وحدة الذاكرة الدينية الإنسانية وتداخل نصوص الوحي والتقاليد الروحية.
يظل كهف الرقيم بالأردن من أبرز المواقع التي تجسّد التلاقي بين التاريخ والدين والفلسفة. فالقصة التي وردت في القرآن الكريم لم تُطرح كسردية تاريخية فقط، بل جاءت كعبرة إيمانية تؤكد أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها.
وإذا كانت الأدلة الأثرية والجيولوجية تميل إلى ترجيح موقع الكهف في جبل الرقيم، فإن البعد الأعمق لهذه القصة يكمن في رمزيتها الخالدة: الإيمان قوة قادرة على تجاوز الزمن والتاريخ، وحماية الإنسان من الفناء المادي والروحي.
