أساطير الأوّلين: بين النص القرآني والخيال الجمعي الإنساني

أساطير الأوّلين: بين النص القرآني والخيال الجمعي الإنساني
يُعدّ مصطلح "أساطير الأوّلين" من التعبيرات القرآنية اللافتة، إذ استخدمه المشركون للتقليل من شأن القرآن الكريم، معتبرين أن ما جاء به النبي محمد ﷺ ليس إلا إعادة صياغة لقصص الأولين وخرافاتهم. لكن هذا التعبير يتجاوز، في أبعاده الدلالية، مجرّد الاتهام التاريخي؛ فهو يفتح الباب أمام مقاربة واسعة بين النص القرآني والأساطير التي أنتجتها الحضارات القديمة بوصفها نصوصًا نفسية – اجتماعية عميقة، شكّلت وجدان الشعوب وصاغت إدراكها للعالم والوجود. فالأسطورة، في جوهرها، ليست كذبة ساذجة ولا مجرد حكاية خرافية، بل محاولة مبكرة للإجابة عن أسئلة كبرى: أصل الكون، مصير الإنسان، معنى الشر والخير. ومن هنا، تأتي أهمية المقارنة بين "أساطير الأولين" ومواقف القرآن منها، بوصفها نصوصًا تعبّر عن لاوعي جمعي قابل للتطور، في مقابل نصّ يتسم بالثبات والنهائية. الأسطورة بوصفها انعكاسًا نفسيًا واجتماعيًا الأسطورة تنبع من وجدان الجماعة؛ هي نتاج خيال جماعي، يشحن المخيلة الإنسانية بالصور والرموز، ويقدّم تفسيرًا للعالم بلغة شعرية تتجاوز حدود الواقع. من هنا، يمكن النظر إليها باعتبارها مرآة نفسية للشعوب، تكشف عن خوفها من المجهول ورغبتها في السيطرة على قوى الطبيعة عبر رمز الآلهة أو البطل الأسطوري. فعندما تقول الأساطير البابلية إن الكون بدأ من ماء بدائي، فإنها تعبّر عن قلق الإنسان الأول أمام الفوضى الكونية، وعن توقه إلى النظام. وحينما يتجلّى البطل الإلهي "مردوخ" ليقسم الفوضى ويُحكِم النظام، فإننا أمام تمثيل رمزي لعقل جمعي يبحث عن الأب القادر على فرض النظام في عالم يموج بالاضطراب. في المقابل، يتعامل القرآن مع هذه البنى النفسية والاجتماعية لا من موقع الخصومة مع الأسطورة، بل من موقع التحويل: إذ يحافظ على الشعرية الكونية (الخلق من عدم، الفصل بين السماء والأرض، الماء أصل الحياة) لكنه يعيد تأويلها ضمن إطار التوحيد ووحدة الفاعل الإلهي. بين الخلق من العدم والتكوين من الهيولى تكشف المقارنة بين النص القرآني والأساطير القديمة اختلافًا جوهريًا في منهج الخلق. • في الأساطير السومرية والبابلية، ينشأ الكون من مادة أولى (المياه أو البيضة الكونية)، أي أن الخلق فعل تكوين من مادة سابقة. • أما في القرآن، فالخلق فعل إلهي مطلق "كُن فيكون"، أي خلق من عدم، يتجاوز منطق الصراع بين العناصر أو تعدد الآلهة. ومع ذلك، يلتقي الطرفان في الصور الكبرى: الماء أصل الحياة، السماء والأرض كانتا "رتقًا" فانفصلتا، القمر والشمس منظِّمان للزمن. غير أنّ دلالات هذه الصور في القرآن ليست مجرّد رموز ميثولوجية، بل إشارات مقصودة إلى نظام كوني منسجم، يقود إلى الإيمان بوحدة الخالق. الأسطورة والقرآن: التوازي والفارق إن المقارنة بين الأساطير والنص القرآني لا تعني التطابق، بل إبراز خطوط التوازي والفوارق: 1. الأسطورة نص مرن، يبدّل صياغاته مع تطور الوعي الجمعي (كما عند سانخونياتن الفينيقي الذي أعاد صياغة أساطير الخلق بلغة أقرب إلى الملاحظة الطبيعية). 2. القرآن نص ثابت، لا يخضع للتبديل، ويؤكد على اكتمال الرسالة ووضوحها. 3. الأسطورة تفسر بالرمز الجمعي، وتفترض قبولًا ذاتيًا مسبقًا من المؤمن بها. 4. القرآن يوجّه خطابه إلى وعي فردي وجماعي معًا، مستندًا إلى سياقات "أسباب النزول" التي تكشف عن علاقة النص بالحدث والإنسان في لحظته التاريخية. تحليل شخصيات الأساطير: البطل الإلهي نموذجًا إذا نظرنا إلى شخصية "مردوخ" البابلية أو "إنليل" السومرية، نجد أن كليهما يمثل صورة "الإله-المحارب" الذي يحطم قوى الفوضى ليقيم النظام. هذه الصورة النفسية تنبع من حاجة الإنسان القديم إلى قوة مطلقة تردع الخوف وتؤسس القانون. وعند الانتقال إلى الأسطورة المصرية، يظهر "رع" كإله شمسي يولد ويشرق كل يوم، ليرمز إلى دورة التجدد والانبعاث، بينما تمثل أسطورة "أوزوريس" و"إيزيس" و"حورس" دراما الصراع بين الخير والشر، الحياة والموت. اللافت أن هذه الشخصيات الأسطورية، رغم اختلاف بيئاتها، تتقاطع جميعًا عند نقطة واحدة: تجسيد الإنسان لقلقه الوجودي عبر صورة الإله أو البطل. أما في القرآن، فإن هذه الحاجة النفسية يتم تجاوزها، إذ لا يقدَّم الله بصورة مجسَّدة أو عبر دراما أسطورية، بل بلغة التنزيه والتوحيد المطلق. المقارنة مع أساطير أخرى • في الأسطورة اليونانية، نرى "زيوس" سيد الآلهة، يوزع الاختصاصات بين آلهة متعددة، تمامًا كما وزع الإنسان القديم الظواهر الطبيعية على آلهة متخصصة (البحر، الحب، الحرب). • بينما في الأساطير الهندية، يبرز ثالوث "براهما – فشنو – شيفا" كقوة خَلْق وحفظ وفناء، وهو انعكاس لفكرة الدورات الكونية المستمرة. • بالمقابل، يقدّم القرآن وحدة الفاعل الإلهي، فلا مجال لتعدد الاختصاصات أو الصراع بين القوى، بل كل الظواهر تعود إلى مشيئة واحدة وحكمة مطلقة. خدعة المكان واللغة يشير النص القرآني إلى ثقافات متعددة في عصره، لكنه لا ينغمس في تفاصيلها الأسطورية. فالتوراة، والإنجيل، وأساطير بابل ومصر واليونان، كانت تشكل خلفية ثقافية، غير أن القرآن أعاد صياغة الحكاية الكبرى للوجود بلغة عربية أصيلة، جعلت من البيان ذاته أداة إقناع وتأثير. وهنا يبرز سؤال فلسفي: ماذا لو وجد المفسرون الأوائل أمامهم مراكز الأساطير القديمة حيّة بمعابدها ورموزها؟ كيف كان سيكون فهمهم للنص القرآني؟ على الأرجح لكانت التفسيرات أعمق وأكثر وعيًا بالبعد المقارن، لكن السياق التاريخي (تدمير المعابد الوثنية، انتشار المسيحية، غياب النصوص الأصلية) جعلهم ينظرون إلى الأساطير نظرة تبسيطية بوصفها "أكاذيب". البعد النفسي والفلسفي للمقارنة الأسطورة، من منظور علم النفس التحليلي، تمثل لغة اللاوعي الجمعي (كما عند يونغ)، بينما القرآن يمثل لغة وعي كوني موجه إلى الفرد والجماعة معًا. • الأسطورة مرنة: قابلة للتأويل والتطور عبر الأجيال. • القرآن ثابت: يقدم خطابًا مكتملًا، يختصر الرمز في حقيقة إيمانية مباشرة. هذا الفارق يجعل من القرآن نصًا يتجاوز دائرة الأساطير ليصبح معيارًا أخلاقيًا وتشريعيًا ومعرفيًا، بينما تبقى الأسطورة سجلًّا رمزيًا لتجارب الإنسان في مواجهة الوجود. خاتمة إن تعبير "أساطير الأولين" ليس وصفًا للقرآن، كما زعم المشركون، بل مرآة تكشف عن لقاء تاريخي بين النص القرآني والأساطير الإنسانية التي سبقته. لقد أخذ القرآن الصور الكبرى للأسطورة (الماء، الخلق، الفصل بين السماء والأرض) لكنه أفرغها من صراع الآلهة وتعدد القوى، وأعاد توجيهها نحو وحدة الفاعل الإلهي. وبينما تظل الأسطورة نصًا مرنًا يتطور مع الوعي الجمعي، يظل القرآن نصًا ثابتًا، يتوجه إلى الوعي الفردي والجماعي معًا بلغة عربية بليغة. هنا يكمن الفارق الجوهري: الأسطورة خيال جماعي يحاول أن يفسر، أما القرآن فحكمة مطلقة تقصد أن تهدي.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال