الملكة الفرعونية:
دور المرأة في السلطة المطلقة
يُعدّ لقب "الملكة الفرعونية" من الألقاب النادرة في تاريخ مصر القديمة، حيث ارتبط في الغالب بالرجال الذين تربعوا على عرش البلاد بوصفهم "أبناء الإله رع" أو "تجسيد الإله حورس". إلا أنّ بعض النساء، عبر تاريخ الحضارة المصرية الممتد ثلاثة آلاف عام ) 3100 ق.م – 30 ق.م) ، استطعن خرق هذه القاعدة الصارمة، واعتلين العرش بوصفهن "فرعوناً"، لا مجرد ملكات قرينات.
هذا البحث يحاول دراسة تلك الظاهرة في سياقها التاريخي والفلسفي، من خلال تحليل الظروف السياسية والاجتماعية التي سمحت للمرأة بتولي الحكم، إضافة إلى قراءة فلسفية لدلالات السلطة الأنثوية في مجتمع ذكوري – ديني الطابع.
الإطار النظري والفلسفي
من الناحية الفلسفية، يمكن النظر إلى حكم الملكات الفرعونيات بوصفه تحدياً للنظام الأبوي الذي تأسس على الثنائية المقدسة بين الذكر ) حورس) والأنثى ) إيزيس) . فقد مثّلت المرأة الضمانة الأساسية للشرعية السياسية، إذ لا يمكن لأي ملك أن يتولى الحكم إلا عبر المصاهرة مع امرأة ذات دم ملكي. ومن هنا كان دورها يتجاوز حدود "الزوجة" أو "الأم" إلى كونها أساس الاستمرار السياسي والديني.
ومع ذلك، ظلّ هناك حدود لا يمكن تجاوزها؛ فكما لا يمكن للذكر أن يتجسد في صورة الإلهة إيزيس، لم يكن مقبولاً للأنثى أن تجسد الإله حورس. هذا التوتر بين التحديد الديني والرغبة السياسية فتح المجال لظهور الملكة الفرعونية كحالة استثنائية، تنبثق غالباً في أوقات الأزمات أو غياب الوريث الشرعي.
الخلفية التاريخية لظهور الملكات الفرعونيات
غالباً ما ارتبط اعتلاء المرأة للعرش بظروف استثنائية: غياب الوريث الذكر، أو ضعف الشرعية السياسية، أو سعي لتجاوز أزمة تهدد استقرار الدولة. في هذه الحالات كانت الأرملة أو الابنة الملكية تتقدم لتولي الحكم، إما منفردة أو بالاشتراك مع ابن صغير أو زوج ضعيف.
يذكر الكاهن مانيتون – الذي كتب تاريخ مصر في العصر البطلمي – أنّ عدد الملكات اللواتي اعتلين العرش الفرعوني لا يتجاوز خمساً. ورغم أنّ السجلات الأثرية قد تكشف عن أسماء أكثر، فإنّ المتفق عليه أنّ هذه الظاهرة لم تكن شائعة، بل كانت مرتبطة بالضرورة التاريخية.
الملكات الموثّقات تاريخياً
1. سبك نفرو ) الأسرة الثانية عشرة – 1777 ق.م)
تُعدّ سبك نفرو أول ملكة حكمت مصر بصورة مؤكدة، بعد وفاة شقيقها أمنمحات الرابع دون وريث. تولت الحكم في فترة حرجة تزامنت مع نهاية الدولة الوسطى. اتخذت ألقاباً ملكية ذكورية، وسعت لإثبات شرعيتها عبر شعائر دينية تمزج بين الإله "سوبك" والإلهة "حتحور". ورغم قصر حكمها ) نحو 4 سنوات) ، فقد حافظت على استقرار نسبي، لكنها مثّلت أيضاً نهاية عصر الازدهار وبدء مرحلة الاضطراب الانتقالي.
2. حتشبسوت ) الأسرة الثامنة عشرة – 1479-1457 ق.م)
حتشبسوت هي الأبرز بين جميع الملكات الفرعونيات. بصفتها ابنة تحتمس الأول وزوجة تحتمس الثاني، وجدت نفسها وصية على العرش بعد وفاة زوجها وطفولة وريثه تحتمس الثالث. إلا أنها لم تكتف بالوصاية، بل أعلنت نفسها فرعوناً مختاراً من الإله آمون. لبست زي الرجال، وارتدت اللحية الاصطناعية، وأصدرت نقوشاً تُظهرها في هيئة ملك ذكوري.
تميز حكمها بازدهار اقتصادي وحملات تجارية ناجحة ) رحلة بلاد بونت) ، إضافة إلى مشاريع عمرانية ضخمة أبرزها معبد الدير البحري. غير أن محاولتها لتأسيس تقليد نسوي في الحكم انهارت بعد وفاتها، إذ قام تحتمس الثالث بمحو اسمها من النقوش في ما يشبه "اغتيالاً رمزياً للذاكرة".
3. توسرت ) الأسرة التاسعة عشرة – 1188-1186 ق.م)
ورثت العرش بعد وفاة زوجها سيتي الثاني ثم وفاة الوريث الطفل سبتاح. حاولت تقديم نفسها بوصفها استمراراً شرعياً للأسرة، لكن فترة حكمها القصيرة كانت مليئة بالاضطرابات، وواجهت صراعاً مع قوى الجيش والكهنة. انتهى حكمها سريعاً مع صعود الأسرة العشرين، ما جعل ذكراها مقترنة بالفوضى.
الملكات المرجحات تاريخياً
1. نيت إقرت ) الأسرة السادسة – نحو 2180 ق.م)
تُعدّ أول ملكة يُعتقد أنها اعتلت العرش بعد اغتيال زوجها، إذ تشير الروايات الكلاسيكية إلى أنها انتقمت لدمه ثم انتحرت. رغم ضعف الأدلة الأثرية، فقد خلّدها مانيتون كمثال على الملكة المنتقمة.
2. نفرتيتي ) الأسرة الثامنة عشرة – 1340 ق.م)
زوجة إخناتون، ورمز الجمال الملكي، هناك فرضيات تشير إلى أنها حكمت بعد وفاة زوجها تحت اسم "سمنخ كا رع"، مستمرة في مشروع التوحيد الديني. الأدلة الأثرية ) النقوش والتماثيل) تدعم فرضية اعتلائها الحكم لفترة قصيرة، لكنها لم تُعترف رسمياً كفرعون مستقل.
3. ميرنت نيت ) الأسرة الأولى – نحو 3000 ق.م)
ربما كانت وصية على ابنها الملك دن في طفولته. عُثر على مقبرتها في أبيدوس بما يشير إلى مكانتها الملكية، لكن لا دليل قاطع على أنها حَكمت منفردة.
4. خنت كاوس الأولى والثانية ) الأسرتان الرابعة والخامسة – نحو 2500 ق.م)
شخصيتان غامضتان ظهرتا في النقوش بلحية فرعونية وصل مقدس، ما أثار جدلاً حول كونهما ملكتين مستقلتين أو مجرد "أمهات ملوك". غير أن الرمزية الدينية المصاحبة لهما تدل على احتمال لعبهما دوراً يتجاوز الأمومة إلى الحكم الفعلي.
الملكات البطلميات ) 305-30 ق.م)
في العصر البطلمي، برزت أسماء مثل كليوباترا الثانية، برنيس الثالثة والرابعة، وصولاً إلى كليوباترا السابعة الشهيرة. ورغم أنهن حملن ألقاب فرعونية، فإنّ وضعهن يختلف؛ إذ كنّ يونانيات الأصل، وحكمهن ارتبط بالمؤامرات والدسائس أكثر من كونه استمراراً للتقليد المصري القديم.
كليوباترا السابعة تحديداً حوّلت الحكم الأنثوي إلى أداة سياسية في مواجهة روما، ما جعلها آخر صورة لملكة حاكمة قبل سقوط مصر تحت السيطرة الرومانية سنة 30 ق.م.
القراءة الفلسفية لدور الملكات الفرعونيات
إنّ ظهور الملكات الفرعونيات لم يكن مجرد استثناء تاريخي، بل يعكس جدلية بين الشرعية الدينية و الضرورة السياسية. ففي غياب الوريث الشرعي، كان لا بد من إعادة صياغة مفهوم السلطة بما يسمح للمرأة أن تكون "رجل دولة" بالمعنى الرمزي.
يمكن القول إنّ الملكة الفرعونية جسّدت نوعاً من السلطة التعويضية: لم تكن مشروعاً لبناء حكم نسوي مستدام، بقدر ما كانت جسراً لإنقاذ الدولة من الانهيار. ولهذا غالباً ما أعقب حكمهن اضطراب أو محو متعمد لذاكرتهن. ومع ذلك، فقد تركت بعضهن، مثل حتشبسوت، بصمة لا تُمحى على تاريخ مصر.
الخاتمة
الملكات الفرعونيات يمثلن ظاهرة مركبة في التاريخ المصري القديم: من جهة نادرة، ومن جهة أخرى حتمية أملتها الظروف. لم يكن ظهورهن علامة ضعف، بل محاولة لدرء الفوضى. وإذا كانت الذاكرة الرسمية قد سعت إلى محو بعضهن، فإنّ الآثار والنقوش أعادت لهن الاعتبار بوصفهن رمزاً لقدرة المرأة على حمل عبء الحكم في عالم ذكوري.
إنّ دراسة هذه الشخصيات لا تكشف فقط عن تاريخ مصر السياسي، بل تفتح أيضاً أفقاً فلسفياً حول طبيعة السلطة والشرعية، ودور المرأة في صناعة التاريخ.
الهوامش والمراجع
1. مانيتون، تاريخ مصر القديمة، ترجمة سليم حسن، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
2. جاردنر، آلان، مصر الفراعنة، ترجمة أحمد فخري، القاهرة: دار المعارف، 1975.
3. البعلبكي، سهيل، المرأة في مصر القديمة، بيروت: دار العلم للملايين، 2002.
4. Redford, Donald B., The Oxford Encyclopedia of Ancient Egypt, Oxford University Press, 2001.
5. Tyldesley, Joyce, Hatchepsut: The Female Pharaoh, Viking Penguin, 1996.
6. Wilkinson, Toby, The Rise and Fall of Ancient Egypt, Random House, 2010.
7. Fletcher, Joann, The Search for Nefertiti, Hodder & Stoughton, 2004.