أسطورة مصاص الدماء بين الحضارات:
قراءة اجتماعية ونفسية وفلسفية
المقدمة
تعد أسطورة مصاص الدماء إحدى أكثر الحكايات الفلكلورية انتشارًا وتنوعًا في التاريخ الإنساني. فقد ظهرت روايات عن كائنات ماصّة للدماء في حضارات متعددة منذ آلاف السنين، بدءًا من حضارة بلاد الرافدين ومرورًا بالإغريق والرومان، وصولًا إلى أوروبا الشرقية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وعلى الرغم من اختلاف الأسماء والصفات، إلا أن هناك سمات مشتركة تجمع هذه الكائنات، أهمها: الخلود، التغذي على الدم، والارتباط بالموت أو الأرواح الشريرة.
غير أن هذه الأسطورة لم تكن مجرد خرافة؛ بل حملت في طياتها رموزًا ثقافية ونفسية عميقة، تكشف عن مخاوف المجتمعات من الموت والمرض والشر، وعن تصوراتها للجسد والروح، وعن جدلية الحياة والموت في الفكر الإنساني.
أولًا: الجذور الحضارية لأسطورة مصاص الدماء
1. في حضارة بلاد الرافدين
تظهر شخصيات مثل ليليث وأماشتو وغالو بوصفها تجسيدًا للشر والافتراس، وخاصة تجاه الأطفال. تمثل هذه الكائنات في علم النفس صورة "الأم المدمّرة" أو "الأنثى المفترسة" التي تعكس قلقًا جمعيًا من تهديد الحياة الجديدة (المولود) وخطر الموت المبكر. فلسفيًا، تجسد ليليث التمرد على السلطة الأبوية ورفض الخضوع، وهو ما جعلها في النصوص الدينية شخصية منبوذة ومصدرًا للرعب.
2. في الحضارة العربية
وردت في «ألف ليلة وليلة» قصص عن نساء يتحولن إلى مصاصات دماء، مثل "نديلة"، بما يعكس الازدواجية في النظرة إلى الأنثى بين الجمال والإغواء من جهة، والخطر والتدمير من جهة أخرى. التحليل النفسي يرى في هذه الحكايات إسقاطًا لرغبات مكبوتة وخوفًا من الانغماس في اللذة المحرمة.
3. في الحضارة الإغريقية
شخصيات مثل لاميا وإمبيوسا والسترغس تحمل سمات الإغواء والافتراس، وتمثل في الفلسفة الأفلاطونية نموذج "الشهوة غير المضبوطة" التي تلتهم الروح والجسد معًا. وهنا يظهر البعد الإيروسي في أسطورة مصاص الدماء، حيث يصبح الدم رمزًا للطاقة الجنسية والحيوية.
ثانيًا: البعد النفسي لأسطورة مصاص الدماء
1. الدم كرمز للروح والحياة
في التحليل النفسي اليونغي، يمثل الدم "القوة الحيوية" (libido) التي يسعى الكائن الأسطوري لامتصاصها بهدف استعادة شبابه أو خلوده. هذه الرغبة ترتبط بما يسميه فرويد "غريزة البقاء" الممزوجة بـ"غريزة الموت"، حيث يسعى مصاص الدماء للحياة عبر تدمير حياة الآخر.
2. الإسقاط الجماعي والذعر الاجتماعي
موجات الهلع في أوروبا الشرقية في القرن الثامن عشر يمكن فهمها كآلية إسقاط جماعية، حيث يُلقى بالمسؤولية عن الأوبئة والكوارث على كائن خرافي. من منظور علم النفس الاجتماعي، هذا النمط يعكس حاجة المجتمع لخلق "عدو خارجي" يبرر الخوف الجماعي ويعزز التضامن الداخلي.
3. الجنس والموت في المخيال الشعبي
عضة مصاص الدماء كثيرًا ما صُورت في الأدب والفن كمشهد إيروسي، ما يجعلها رمزًا للالتقاء المزدوج بين النشوة والفناء. فلسفيًا، يمكن قراءتها كصراع بين "إيروس" (غريزة الحياة) و"ثاناتوس" (غريزة الموت) في النفس البشرية.
ثالثًا: الأبعاد الفلسفية لرمزية مصاص الدماء
1. الخلود كهاجس إنساني
مصاص الدماء هو التجسيد الأسطوري لحلم الإنسان بالخلود، لكنه خلود مشوّه يفتقد النقاء الأخلاقي. هنا يطرح السؤال الفلسفي: هل الخلود في ذاته نعمة أم لعنة؟ وهل يمكن للحياة أن تكتسب معناها دون الموت؟
2. الآخر الغريب والمحرّم
يمثل مصاص الدماء "الآخر" الذي يقف خارج النظام الاجتماعي والديني. في الفلسفة الوجودية، هو رمز "الآخرية المطلقة" التي تثير الرعب لأنها تكسر الحدود بين الحي والميت، والإنسان والوحش.
3. الجسد كأداة للهيمنة
فعل مص الدماء هو انتهاك للجسد، وفرض لسيطرة الكائن المفترس على ضحيته. في الفكر الفوكوي، يمكن قراءته كاستعارة لعلاقات القوة والسيطرة البيولوجية على الجسد.
رابعًا: التنوع الثقافي وتحوّلات الأسطورة
من فيتالا وكالي في الهند، إلى ستريغوي في رومانيا، وفوريكولاكس في اليونان، تتبدل تفاصيل الحكاية وفق الثقافة المحلية، لكنها تحتفظ بجوهرها: كائن حي–ميت، يقتات على دماء الأحياء، ويتحدى قوانين الطبيعة. هذا التكرار عبر الثقافات يطرح فرضية وجود "بنية أسطورية مشتركة" في العقل الجمعي البشري، على غرار ما طرحه كلود ليفي-شتراوس في الأنثروبولوجيا البنيوية.
الخاتمة
أسطورة مصاص الدماء، رغم جذورها الخرافية، تقدم نافذة ثرية لفهم النفس الإنسانية، ومخاوف المجتمعات، ورمزية الدم والموت والخلود. إن تعدد صورها عبر الحضارات يكشف عن وحدة التجربة الإنسانية في مواجهة الفناء، وعن حاجة البشر الدائمة لتحويل المجهول والمخيف إلى قصة يمكن روايتها.
وفي التحليل النهائي، يظل مصاص الدماء مرآة تعكس صراعات الإنسان مع جسده، ورغباته، ومصيره المحتوم.