الأساطير المصرية:
قراءة اجتماعية–نفسية في الوعي الجمعي المصري القديم
مقدمة
الأساطير المصرية هي تلك القصص المقدسة التي شكّلت الإطار الرمزي والديني لعقل المصري القديم، تمامًا كما يشكّل العلم اليوم الإطار التفسيري للعالم المعاصر. امتازت هذه الأساطير بعمقها الفلسفي وتعدد مستويات معانيها، حيث كانت بالنسبة للمصري القديم حقيقة مُسلَّم بها، وليست مجرّد حكايات خيالية. شخصياتها الرئيسية غالبًا من الآلهة أو أنصاف الآلهة، بينما حضور البشر كان مكمّلًا أو وظيفيًا، يخدم بناء السرد ويعكس موقع الإنسان في الكون كما تصوره العقل الديني آنذاك.
كانت الأسطورة تُستخدم لتفسير ظواهر الطبيعة، وأصل الكون، وخلق الإنسان، وتنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، وهو ما جعلها إطارًا متكاملاً للفلسفة والعلوم الإنسانية في مصر القديمة. من أشهر هذه الأساطير: أسطورة إيزيس وأوزوريس، وأسطورة ست، وأسطورة حورس.
أولاً: الأصول والبيئة المؤثرة في تشكيل الأسطورة
يصعب تتبع التطور الزمني للأسطورة المصرية بدقة، إذ اعتمد علماء المصريات على نصوص مكتوبة ظهرت في مراحل لاحقة، ثم حاولوا استقراء مراحلها الأولى.
البيئة المصرية لعبت دورًا محوريًا في صياغة المخيال الأسطوري:
• النيل بفيضاناته المنتظمة شكّل رمزًا للخصوبة والاستمرار، لكن فيضاناته الشديدة أو المنخفضة كانت تمثل خطرًا وجوديًا.
• الشمس بحركتها اليومية كانت تجسد دورة الحياة والموت والانبعاث.
• الصحراء المحيطة اعتُبرت فضاءً للفوضى والخطر، ومصدر تهديد للحضارة والنظام.
هذا التفاعل بين النظام (الخصوبة والنور) والفوضى (القحط والعواصف) أصبح ثيمة أساسية في معظم الأساطير المصرية.
ثانياً: التعريف والنطاق
عرّف عالم المصريات جون بينز الأسطورة بأنها "سرد مقدس أو ثقافي مركزي".
في مصر القديمة، تركزت الروايات الكبرى حول الأحداث بين الآلهة، بينما ندر السرد التفصيلي لهذه الأحداث، وكان الاعتماد أكثر على التلميح والرمز.
ثالثاً: المحتوى والمعنى
الآلهة المصرية لم تكن مجرد كائنات سماوية، بل تجسيد لظواهر وقوى طبيعية ومجردة: الأرض، السماء، الشمس، المعرفة، الإبداع… إلخ.
الأسطورة هنا كانت بمثابة نظام معرفي–اجتماعي يبرر التقاليد، ويجيب عن أسئلة الوجود، ويحدد موقع الإنسان في الكون.
رابعاً: الزمن والدورات الكونية
استلهم المصريون مفهوم الزمن من انتظام الطبيعة:
• دورة الشمس اليومية = دورة الحياة والموت.
• دورة فيضان النيل = دورة الخصب والموت المؤقت.
هذه الرؤية الدورية جعلت المصريين يتصورون "الزمن االبدني"، حين كانت الآلهة حاضرة على الأرض ، مثلها مثل البشر، قبل أن تنتقل السلطة إلى الفراعنة البشر، وهو ما يوازي في علم النفس الاجتماعي مرحلة "العصر الذهبي" في الذاكرة الجمعية.
خامساً: التحليل النفسي لشخصيات الأساطير
1. رع – الأنا العليا الكونية
في ضوء التحليل النفسي الفرويدي، يمكن اعتبار رع الأنا العليا للمجتمع المصري القديم، فهو مصدر النور والقانون والنظام. يمارس رقابة على الكون ويحدد الإطار الأخلاقي. انسحابه إلى السماء يرمز إلى انتقال السلطة من البُعد الإلهي المباشر إلى النظام السياسي–الديني المُمثّل في الفراعنة.
2. أوزوريس – رمز الأنا المثالية والشهيد المخلص
أوزوريس يمثل نموذج الأنا المثالية: ملك عادل، حكيم، ضحّى بحياته، وتحول إلى رمز للبعث والأمل. موته وتمزيق جسده يعكس صدمة الخيانة والصراع الأخوي، وهو ما يمكن تفسيره نفسيًا على أنه صراع بين الغرائز البنائية والهدمية في النفس الإنسانية (وفق فرويد: الإيروس وثاناتوس).
3. إيزيس – الأم العظمى/الأم الحامية
إيزيس تمثل النموذج الأولي (Archetype) للأم في نظرية يونغ: الحامية، المعالجة، الساحرة الحكيمة. بحثها عن أشلاء زوجها يعكس الوفاء العاطفي والقدرة على إعادة البناء بعد الفقد، وهو ما يعزز فكرة "المرأة/الأم" كقوة حافظة للحياة والنظام.
4. ست – ظل النفس (Shadow)
ست يجسد الظل في علم نفس يونغ: القوة الغريزية، العدوان، الغيرة، والفوضى. وجوده ضروري لتحقيق التوازن الأسطوري، لأنه يذكّر المجتمع بأن الشر جزء لا يتجزأ من النظام الكوني، وأن الصراع الأبدي بين الخير والشر لا بد منه لاستمرار الحياة.
5. حورس – الأنا الناضجة
حورس ابن الصراع، ينشأ في الخفاء، ويعود ليواجه عمه ست. يمثل الأنا الناضجة القادرة على مواجهة الظل والسيطرة عليه. فقد عينه في المعركة يرمز إلى التضحية بالنظرة الكاملة مقابل النضج والحكمة، واستعادتها من تحوت تشير إلى استكمال الذات.
سادساً: الأسطورة كنظام علاج نفسي جماعي
يمكن النظر إلى الأساطير المصرية باعتبارها "علاجًا نفسيًا جماعيًا" (Collective Psychotherapy)، حيث تقدم للناس إطارًا لفهم المآسي والموت، وتمنحهم الأمل في البعث، وتربط مصائرهم بقوى كونية أسمى.
في ضوء نظرية فيكتور فرانكل (العلاج بالمعنى)، نجد أن هذه الأساطير منحت المصري القديم معنىً لوجوده، وفسرت له الألم والخسارة كجزء من دورة أبدية، لا كحدث عبثي.
خاتمة
الأسطورة المصرية ليست مجرد تراث أدبي أو ديني، بل بنية نفسية–اجتماعية متكاملة، أسهمت في تشكيل الوعي الجمعي للمصريين القدماء، وأثرت في نظامهم السياسي، وفنونهم، ورموزهم الدينية.
إن تحليل شخصياتها في ضوء نظريات فرويد ويونغ وفرانكل يكشف عن عمقها النفسي، وقدرتها على تمثيل صراعات النفس الإنسانية بين النظام والفوضى، الحياة والموت، النور والظلام.