الإرادة الواعية: دراسة نفسية فلسفية في طبيعة الفعل الإنساني وحدود الحرية

الإرادة الواعية: دراسة نفسية فلسفية في طبيعة الفعل الإنساني وحدود الحرية
مقدمة تظل مسألة الإرادة الحرة واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في تاريخ الفكر الإنساني، إذ تمثل نقطة التقاء بين الفلسفة وعلم النفس وعلوم الأعصاب، بل وتمتد إلى ميادين الأخلاق والقانون. فهي مسألة تمس جوهر وعي الإنسان بذاته، وقدرته على التحكم في أفعاله، ومسؤوليته الأخلاقية والقانونية عنها. والسؤال الجوهري الذي يُطرح هنا: هل نتمتع فعلًا بإرادة حرة واعية، أم أن ما نعتبره حرية ليس إلا وهمًا ينسجه الدماغ؟ التجربة البسيطة وبداية التساؤل إذا مددت يدك أمامك، ثم قررت أن تثني رسغك في اللحظة التي تختارها، فإنك تشعر أنك اتخذت القرار بحرية واعية. وحتى إذا لم تفعل، فإنك تكون قد قررت الامتناع. لكن السؤال الجوهري هو: من الذي اتخذ القرار فعلًا؟ هل هي ذاتك الداخلية، أم قوة وعيك، أم أن الأمر تحكمه عمليات عصبية لا نشعر بها؟ تشير المعطيات العلمية إلى أن القرار الإرادي — حتى في أفعاله البسيطة — نتاج سلسلة معقدة من النشاط العصبي، تبدأ في مناطق قبل جبهية في الدماغ، مرورًا بالقشرة أمام الحركية، ثم القشرة الحركية الأولية، التي ترسل الأوامر النهائية إلى العضلات. إشكالية الوعي في منظومة الفعل رغم أننا نستطيع رصد المسار العصبي للفعل الإرادي، إلا أن مكان "الوعي" في هذه السلسلة يظل لغزًا. أهو المحرك الأول للفعل أم مجرد متفرج على ما تم تقريره عصبيًا؟ هنا تتشكل المعضلة الكلاسيكية التي أشار إليها ديفيد هيوم بأنها من أعقد المسائل الميتافيزيقية، لارتباطها الوثيق بمفهوم المسؤولية الأخلاقية، إذ إن نفي الحرية يهدد الأساس الفلسفي والأخلاقي والقانوني للمحاسبة. الحتمية وتحدي الإرادة الحرة تطرح الفلسفة الحتمية رؤيةً ترى أن كل ما يحدث محدد مسبقًا بسلسلة من الأسباب السابقة. إذا صح هذا التصور، فإن ما نسميه "اختيارًا" لا يعدو أن يكون نتيجة حتمية لسلسلة من الأسباب الخارجة عن سيطرتنا. أما الاعتماد على الصدفة (كما في فيزياء الكم) فلا يحل المشكلة، لأن العشوائية لا تمنح حرية بل تنفيها؛ إذ يصبح الفعل خارج سيطرة الوعي أيضًا. التجريب العلمي ومفارقة ليبيت عام 1985، أجرى بِنْجَامِن ليبيت تجربة شهيرة لقياس العلاقة الزمنية بين النشاط العصبي والقرار الواعي. وجد أن ما يسمى بـ"إمكانية الاستعداد" — وهو نشاط دماغي يسبق الحركة — يبدأ قبل وعي الشخص برغبته في الفعل بحوالي 350 ملي ثانية. أي أن الدماغ "يقرر" قبل أن يعي الشخص قراره. هذه النتيجة، لو أخذت على إطلاقها، تهدد تصورنا الكلاسيكي للإرادة الحرة، لأنها تشير إلى أن الوعي ليس البادئ بالفعل، بل تابع له. دور "الفيتو الواعي" رغم ذلك، لم يذهب ليبيت إلى إنكار الحرية تمامًا، بل اقترح مفهوم الاعتراض الواعي أو "الفيتو". أي أن الوعي قد لا يكون قادرًا على بدء الفعل، لكنه قادر على إيقافه بعد أن تبدأ الاستعدادات العصبية له. هذا المفهوم يسمح بالاحتفاظ بفكرة المسؤولية الأخلاقية، لأن الإنسان يستطيع كبح الأفعال غير المقبولة. الوهم والإحساس بالتحكم تجارب علم النفس الاجتماعي والحركي، مثل تجارب مايكل فاراداي على "تحضير الأرواح"، أظهرت أن الناس قد يقومون بحركات عضلية دون وعي، ومع ذلك ينسبونها لقوى خارجية. بل إن ظواهر مثل تحريك لوحة "ويجا" أو بعض أعراض الفصام (كالشعور بأن الأفكار ليست ملكًا للفرد) تكشف أن الإحساس بالتحكم ليس دائمًا انعكاسًا دقيقًا للواقع العصبي. الوعي والدماغ: علاقة معقدة التحدي الأكبر يكمن في أن تحديد زمن لحظة "اتخاذ القرار الواعي" أمر ملتبس فلسفيًا وعلميًا؛ لأن هذا يتطلب الفصل بين الزمن الفيزيائي للأحداث الدماغية والزمن الظاهري للتجربة الذاتية، وهو فصل قد لا يكون مبررًا إذا كان الوعي نفسه جزءًا لا يتجزأ من النشاط العصبي. خاتمة تفتح قضية الإرادة الواعية بابًا واسعًا أمام الحوار بين الفلسفة وعلوم الدماغ. فالدلائل التجريبية تدفعنا لإعادة النظر في تصوراتنا التقليدية عن الفعل الحر، بينما تحذرنا الفلسفة من التسرع في إسقاط مفاهيم المسؤولية والأخلاق. قد يكون الطريق الوسط في الاعتراف بأن الحرية المطلقة وهم، لكن حرية الضبط الذاتي ممكنة، وأن الوعي، حتى لو لم يكن المحرك الأول، يظل أداة مركزية في مراقبة أفعالنا وتوجيهها نحو ما نراه جديرًا بنا ككائنات أخلاقية.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال