الزرادشتية:
دراسة فلسفية اجتماعية مقارنة
المقدمة
تُعد الزرادشتية واحدة من أقدم الديانات الحيّة في التاريخ الإنساني، ديانةً جمعت بين الفلسفة والتجربة الروحية، وحملت في طياتها جدلية الخير والشر، النور والظلمة، الحق والباطل. هي ليست مجرد طقسٍ أو شعيرة، بل مشروع إصلاحي روحي حاول أن ينقل الإنسان من عالم الأساطير المتعددة الآلهة إلى أفق التوحيد، وإن بصيغة ثنائية متوترة.
ومثلما كان للديانات الإبراهيمية أثرها العميق في الحضارات اللاحقة، فإن الزرادشتية سبقتها في طرح أسئلة الوجود والمصير، وكان لها أثر ظاهر على الفكر اليهودي في زمن السبي البابلي، ثم انعكاساته على المسيحية والإسلام في مفاهيم الجنة والنار والبعث والحساب.
أولاً: البدايات والنصوص المقدسة
1. الجذور التاريخية
ظهرت الزرادشتية قبل أكثر من 3500 سنة في بلاد فارس. ويُرجّح الباحثون أنها وُلدت من رحم الموروث الديني الهندو-إيراني القديم، حيث كانت القبائل تعبد قوى الطبيعة والآلهة المتعددة. غير أن النبي زرادشت (زرتشترا) جاء بمشروع إصلاحي يختزل هذا التعدد في ثنائية كونية:
• أهورامزدا: إله النور والحكمة والخير.
• أهريمان: مبدأ الشر والظلمة والخراب.
2. النصوص الدينية
النص الرئيس هو الأفستا، وبخاصة "الغاثات" التي تُنسب إلى زرادشت نفسه، وهي قصائد طقسية ذات لغة رمزية. يمكن مقارنتها بنصوص "المزامير" في العهد القديم أو "الأناشيد الفيدية" في الهندوسية، إذ تحمل مزيجًا من الدعاء والتأمل والحكمة.
ثانياً: العقائد والمعتقدات
1. التوحيد والثنائية
الزرادشتية تُعد في نظر كثير من الباحثين دينًا توحيديًا؛ إذ تؤمن بإله واحد هو أهورامزدا، لكنها تقرن وجوده بجدلية أزلية مع قوة الشر أهريمان. هذه الثنائية تستحضر الثنائية البابلية القديمة (النور/الظلام)، وتجد أصداءً لها في المسيحية (الله/الشيطان)، وفي الإسلام (الله/إبليس).
2. النفس والفضائل
ترى الزرادشتية أن النفس الإنسانية ساحة صراع بين قوتين:
• القوة المقدسة المدعومة بسبع فضائل: الحكمة، الشجاعة، العفة، العمل، الإخلاص، الأمانة، الكرم.
• القوة الخبيثة المدعومة بسبع رذائل: النفاق، الخيانة، البخل، الظلم، الجبن، الخديعة، إزهاق الروح.
وهنا يتقاطع الفكر الزرادشتي مع المسيحية والإسلام في مفهوم "الجهاد الداخلي"، أي صراع الإنسان مع شهواته وأهوائه.
3. اليوم الآخر والعقاب
الزرادشتيون يؤمنون بالبعث والحساب والصراط وميزان الأعمال، وهي أفكار نجد صداها في الديانات الإبراهيمية. إلا أن وصف الجحيم عندهم يختلف؛ فهو مكان بارد يعج بالوحوش، بينما جهنم في الإسلام والمسيحية مرتبطة بالنار والحرارة.
ثالثاً: الطقوس والشعائر
1. النار المقدسة
النار في الزرادشتية ليست معبودة، بل رمز للنقاء والحكمة الإلهية. وكما أن الماء طقس للتطهير عند الهندوس والمسيحيين (المعمودية)، فإن النار في الزرادشتية هي وسيلة للاتصال بالنور الإلهي.
2. الزواج والطلاق
تفضّل الزرادشتية المتزوج على الأعزب، وتُحرم الطلاق. في ذلك تقارب مع الفكر الكاثوليكي الذي يرى الزواج سرًّا مقدسًا لا يُحل إلا بالموت.
3. الموت والدفن
ترفض الزرادشتية دفن الجسد في التراب أو حرقه بالنار، خشية تدنيس العناصر الأربعة المقدسة (الماء، التراب، الهواء، النار). لذا يُترك الجسد في "أبراج الصمت" لتنهشه الطيور. وهي ممارسة فريدة تشبه في رمزيتها مفهوم "العودة إلى الطبيعة"، وتختلف جذريًا عن الدفن اليهودي والمسيحي والإسلامي.
رابعاً: التاريخ والتحولات
1. في ظل الإمبراطوريات الفارسية
كانت الزرادشتية الدين الرسمي للأخمينيين والبارثيين والساسانيين. وقد شكّلت ركيزة سياسية وفكرية للدولة، مثلما شكّلت المسيحية لاحقًا أساس الإمبراطورية البيزنطية، والإسلام أساس الخلافة.
2. الصدام مع الإسلام
بعد الفتح الإسلامي لفارس (القرن السابع)، تراجع شأن الزرادشتية، وتعرّض أتباعها للتمييز والجزية، مما دفع كثيرين إلى الهجرة نحو الهند، حيث أصبحوا يُعرفون بالبارسيين.
3. الزرادشتية الحديثة
اليوم لا يتجاوز عدد أتباعها 120 ألفًا موزعين بين إيران والهند والمهجر. لكنها لا تزال تحمل صوتًا حضاريًا متفردًا، خصوصًا في فلسفتها الأخلاقية.
خامساً: الأعياد والرموز
1. الأعياد
أشهرها النوروز (الاعتدال الربيعي) الذي أصبح عيدًا قوميًّا في إيران وكردستان. وهو يشبه في رمزيته "عيد الفصح" المسيحي الذي يرمز إلى القيامة والتجدد، و"عيد الأضحى" الإسلامي الذي يرمز إلى الطاعة والتضحية.
2. الرموز الدينية
• الكوشتي: حزام مقدس من 72 خيطًا.
• الساندر: قميص أبيض رمزي.
• النار الأبدية: رمز النقاء الإلهي.
سادساً: التأثيرات المتبادلة مع الأديان الأخرى
• تأثر اليهود خلال السبي البابلي بالمفاهيم الزرادشتية عن الملائكة والشياطين والجنة والنار.
• المسيحية أخذت منها فكرة الصراع الكوني بين الخير والشر.
• الإسلام تقاطع معها في بعض المفاهيم (اليوم الآخر، الحساب، الصراط)، لكنه رفض ثنويتها مؤكّدًا على توحيد مطلق.
الخاتمة
الزرادشتية ليست مجرد ديانة قديمة مندثرة، بل هي شهادة على رحلة الإنسان في البحث عن النور وسط الظلام، وعن معنى الحياة والموت. هي قصيدة فلسفية باذخة، تتأرجح بين العقل والشعر، بين التوحيد والثنائية، بين الواقع والأسطورة.