جريمة قتل من أجل سبة جنيهات
صباح يوم العشرين من مايو عام 1958، كان مدير شركة توريدات "سقارة " جالسًا في مكتبه، منغمسًا في ترتيب أوراقه، حين لاحظ غياب أحد الموظفين دون عذر. تضايق، خاصة وأن هذا الموظف من المقربين إلى قلبه. وقبل أن يطالبه أحد بالبحث عنه، رنّ جرس الهاتف، كانت المتحدثة على الطرف الآخر امرأة بصوت قلق:
"أنا زوجة هشام الرومي ، هل حضر إلى العمل اليوم؟"
أجاب المدير:
"لا، لم نره منذ الصباح."
ردت بلهجة مرتجفة:
"غادر المنزل مساء أمس عند السادسة... ولم يعد، ولم أسمع عنه شيئًا حتى الآن. أخشى أن مكروهًا قد أصابه."
نصحها المدير بالاتصال بالشرطة فورًا.
لم تمضِ نصف ساعة حتى سُجِّل البلاغ، وبينما كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، اكتشف أحد السائقين على الطريق الريفي قرب سقارة جثة رجل أنيق الهيئة، ملقاة جزئيًا وسط الأعشاب الكثيفة، وساقاه بارزتان على جانب الطريق.
الشرطة وصلت بعد دقائق، المكان بات خلية نحل. الجثة لرجل في الثلاثين من عمره، مصاب برصاصتين: واحدة في الظهر، والثانية في الجنب. قبضته كانت لا تزال تمسك بحلقة مفاتيح سيارته، بينما حافظة نقوده كانت فارغة، وبها فقط رخصة قيادة باسم: هشام الرومي .
فتّش المحققون المنطقة، فعثروا على أربع طلقات فارغة عيار 45 مم، وأُرسلت الجثة للتشريح. في الوقت ذاته، تحرك محققان إلى عنوان الضحية.
كانت زوجته، امرأة شقراء في السابعة والعشرين من عمرها، تحمل على ذراعيها طفلاً لم يتجاوز الستة أشهر، بينما يلعب أخوته الثلاثة حولها. وعندما علمت بالخبر، أجهشت بالبكاء في نوبة استمرت عشرين دقيقة.
وبين دموعها، أخبرت المحققين أن زوجها كان يعمل كاتبًا للحسابات، وأنه مساء أمس عاد مبكرًا، تناول عشاءه في الخامسة والنصف، ثم قال إنه سيعود إلى المكتب لإنهاء حسابات الأجور مع رمحمود ... لكنه لم يذكر اسميهما.
أكدت الزوجة أنه لم يكن يحمل أكثر من سبعة جنيهات . ولم يُعثر في المنزل على أي شيء يساعد التحقيق.
أما السيارة، وهي من طراز "أولدزموبيل 1952"، فكانت مفقودة. وأُبلغت الشرطة ببياناتها.
لكن ما أثار شكوك المحققين هو ما صرّح به مدير الشركة:
"لم يكن هناك أي عمل يتطلب عودته مساء، ولم يكن بحوزته مفتاح للمكتب أصلًا. كما أن دفاتره كانت مرتبة، لا شبهة فيها."
إذًا، لماذا كذب على زوجته؟
جاء تقرير الطبيب الشرعي ليكشف عن تفاصيل جديدة: روبرت قُتل حوالي الساعة السابعة والنصف مساءً، بعد ساعتين فقط من تناوله الطعام.
وفي اليوم التالي، عُثر على سيارته مهجورة، دون آثار لدم أو عراك.
مرّت الأيام ببطيء ، ولا أثر للجاني.
وفي صباح السبت، على بُعد 600 كيلو من موقع الجريمة، وفي مدينة "الفيوم" ، كان هناك مشهد موازٍ من الحزن والدم.
وصل "رمزي البلعوطي " إلى محطة الأوتوبيس في انتظار ابنه الطبيب "محمود ". لكنه لم يكن في استقباله كعادته. وبعد ساعات من الانتظار، قصد منزله.
فتح الباب، ودخل بخطى مترددة. في غرفة النوم، كان ابنه ممددًا على الأرض، ساقاه مخبأتان تحت السرير، وقد اخترقت جسده خمس رصاصات.
كُشف عن الجثة، والأدراج مبعثرة، الأوراق مبعثرة، والمحفظة والمفاتيح مفقودة. السيارة الهوندا، حديثة الطراز، كانت واقفة أمام المنزل... لم تُمس.
أفاد الجيران بأن إنذارًا كاذبًا عن حريق شُغِّل في تلك الليلة، وسمع البعض صوت إطلاق نار قرابة الثامنة والنصف مساء الجمعة.
التحقيق كشف أن الشاب كان قد تزوج سرًا، ثم طلق زوجته منذ أربع سنوات، وأن له ابنة تعيش في السويس مع الأم. لم يكن له أعداء، لكنه كان يواجه أزمة مالية صعبة.
تقرير الطبيب الشرعي حدد وقت الوفاة قرابة العاشرة مساء، وأكد أن الرصاص أُطلق من مسافة قريبة.
تشابهت التفاصيل... نفس السلاح، نفس العيار، نفس الفوضى... لكن القاتل مجهول.
حتى جاء الفرج من حيث لا يُتوقع.
في أول يونيو، وبينما كان مهند الأسيوطي ، بائع أدوات طبية، يقود سيارته عائدًا من الاسماعيلية، صادف شابًا قصير القامة، ممتلئ الجسم، يرتدي قميصًا أحمر. أوقف السيارة بدافع طيبته، فركب الرجل.
قدّم نفسه باسم "نبيل "، وقال إنه ذاهب إلى سقارة للعمل. تبادلا الحديث، وشاركه مهند لفافة تبغ.
بعد ساعات، وفي طريقهما نحو "سقارة"، سأل نبيل فجأة:
كم معك من المال؟
أجابه مهند بنفور: ـ هذا ليس من شأنك.
فأخرج نبيل مسدسًا، وصاح:
بل هو شأني. أوقف السيارة، أريد النقود والسيارة.
لكنه لم يتوقع ردّ مهند، الذي ضغط على دواسة الوقود وقال متحديًا:
أطلق النار إن شئت. سنموت معًا.
أطلق ليونارد رصاصتين، لكنهما أخطأتا الهدف. تعطّل السلاح، فاندفع مهند عليه، واشتبكا. حضر رجال الجراج المجاور، وأمسكوا بالمجرم.
في قسم الشرطة، اعترف نبيل دون مواربة:
قتلت هشام الرومي ... لكنه لم يكن يحمل سوى سبعة جنيهات .
وعندما سأله القاضي عن القميص الأحمر الذي يرتديه وعليه حروف لا علاقة له بها، قال ببساطة:
لقد أخذته من الشاب الثاني... لا أعرف اسمه، لكنه مَنحني قميصًا نظيفًا، فقتلته.
تبين أنه محمود .
شرح نبيل تفاصيل الجريمتين ببساطة مذهلة. هشام ، الموظف البسيط، كان أول قتيل. محمود ، الطبيب الشاب، كان الثاني.
قال ببرود:
بعدما قتلت الأول، لم أعد أخشى القتل. في النهاية، لن يُعدموني إلا مرة واحدة.
قُدّم "نبيل " إلى المحاكمة.
لم يُنكر، لم يتوسل، لم يُبرر بل كان رابط الجأش ، ثابت النظرات.
وصدر الحكم بالسجن 99 عامًا .في سجن أانفرادي .
قال الطبيب النفس الذي انتدبته المحكمة أنه يعاني من اضطهاد نفسي .
ليس من أجل القتل. بل من أجل سبعة جنيهات .