أثر السينما في الأطفال:
رؤية اجتماعية ونفسية
حين كنا صغارًا، كانت الرغبة في الذهاب إلى السينما تسيطر علينا بكل جوارحنا، فكنا نقول لآبائنا: "نريد أن نذهب إلى السينما". وكان رد الفعل غالبًا ما يأتي على هيئة نظرات غاضبة وتحذيرات شديدة، سرعان ما تتبعها العقوبات الجسدية أو الحرمان من المصروف. فإذا ما تمكّنا من الذهاب إلى السينما دون علمهم، ثم اكتشفوا الأمر، لم يعرف غضبهم حدًا، وكأننا ارتكبنا جريمة لا تُغتفر.
ورغم هذه المخاطر، كانت السينما تملك علينا سحرًا خاصًا لا نقوى على مقاومته. فقد كانت معظم الأفلام التي تُعرض آنذاك تنتمي إلى نوعية أفلام الحركة والمطاردة والملاكمة وإطلاق النار بين الأبطال واللصوص. ولم يكن هذا وحده ما يشد انتباه الجمهور؛ فالكبار وجدوا في السينما لذّة مختلفة، تمثّلت في مشاهدة النساء الجميلات في مشاهد مثيرة داخل الصالونات الفاخرة والبارات، وهنّ يداعبن الرجال ويجلسن إليهم في أجواء يغلب عليها الطابع الإغرائي.
الأثر النفسي في الطفولة
في طفولتنا، لم نكن نشعر بأن للسينما أثرًا سلبيًا علينا. لم تحرّضنا على الجريمة، ولم توقظ غرائزنا، ولم تؤذِ أعيننا. غير أن الحقيقة لم تتّضح لنا إلا حين كبرنا، إذ تبين لنا أن بعض أصدقائنا، خاصة من ذوي الشخصية الضعيفة، قد تأثروا بالسينما تأثيرًا مباشرًا. انصرف بعضهم عن الدراسة، واختار آخرون مهنًا لا تمت بصلة إلى الطموح أو القيم، وانتهى الحال بالبعض إلى مصائر مجهولة. وكان القاسم المشترك بين هؤلاء جميعًا هو الإسراف في ارتياد دور العرض، والانغماس المفرط في عوالمها.
تطور المحتوى السينمائي
مع مرور الوقت، بدأنا نلاحظ أن مستوى الأفلام المعروضة قد ارتفع، وأصبح المخرجون يتناولون موضوعات أكثر رقيًا وتهذيبًا، ما خفّف من حدة الخطر المرتبط بارتياد السينما. ومع هذا التحوّل، لم نعد نرى ارتياد السينما نشاطًا مريبًا، بل أصبحنا نحن من أشد المهتمين بها.
لكننا أدركنا لاحقًا أن هذا التطور لم يكن نتيجة وعي فني أو مسؤولية اجتماعية لدى صُنّاع الأفلام، بل كان مرتبطًا بتغير أذواق الجمهور المصري، وانخفاض الطلب على أفلام الجريمة والعنف. بينما ظل هذا النوع من الأفلام حاضرًا ومؤثرًا في ثقافات أخرى، مثل فرنسا، حيث ظهرت تقارير كثيرة توثق تأثيرها المدمر على أخلاق الأطفال والمراهقين.
عودة الخطر
مع تزايد عدد دور العرض في مصر وتوسع جمهورها، عادت أفلام الجريمة والعنف إلى الواجهة بقوة. وأصبحنا نرى الأطفال يتهافتون على مشاهدة هذه الأفلام بشغف، وهي أفلام مشحونة بمشاهد المغامرات والمطاردات التي تهز المشاعر. ومن هنا نشأت الحاجة الملحّة إلى دق ناقوس الخطر، والتنبيه إلى ضرورة تدخل الجهات المعنية لحماية الأطفال من هذا التأثير.
وفي هذا السياق، نعرض ما جاء في تقرير تفصيلي أعدّه الأستاذ الفرنسي هنري والون، ورفعه إلى وزارة الداخلية الفرنسية، موضحًا فيه آثار هذه الأفلام على النشء.
الأثر التحفيزي للسينما المثيرة
يشير "والون" إلى أن الطفل الذي يشاهد فيلمًا مثيرًا لا يشغله بعد ذلك سوى تقليد ما رآه، حيث تصبح شخصيات الفيلم نماذج يُعجب بها، ويتقمصها وجدانيًا. وقد روَت له طفلة صغيرة أنها حلمت أسبوعًا كاملًا بفيلم شاهدته، وكان الفيلم مليئًا بالجثث والمشاهد المخيفة، ومنها مشهد يد جثة تطرق الباب، ما جعلها تصرخ طوال الليل وتستيقظ فزعة، بل امتنعت عن الطعام لأيام.
ويؤكد التقرير أن السبب في هذا التأثير هو افتقار الطفل إلى الخبرة النقدية، فخياله لا يفصل بين الحقيقة والتمثيل، كما أنه غير محصن بتجارب الحياة، فيظل تحت تأثير الفيلم لفترة طويلة، ويتحول إلى شخصية انفعالية تسهل استثارتها.
تقليد العنف وتشوّه الوجدان
وقد أجرى معهد التربية الطبية في مدينة ليل الفرنسية دراسة على تأثير المشاهد العنيفة في الأطفال، وخرج بنتيجة تؤكد أن هذه المشاهد، رغم ما تثيره من خوف، تجذب الأطفال وتؤثر فيهم بشكل عميق، وقد تدفعهم إلى تقليدها. فبعض الأطفال، مثلًا، حاولوا شنق زميل لهم بعد مشاهدتهم فيلمًا عن صراع مع الهنود الحمر يحتوي على مشهد مشنقة.
ويُظهر التقرير أن الأطفال ضعيفي الثقافة، أو من لديهم خلل في النمو العقلي، هم الأكثر عرضة للتأثر. كما أن الأطفال الذين يعيشون في بيئات أسرية مضطربة، أو يعانون الإهمال التربوي، يشكّلون نسبة كبيرة من الضحايا المحتملين. وتشير الإحصائيات إلى أن عدد الأطفال ضعاف العقول في فرنسا وحدها يُقدَّر بحوالي 400 ألف طفل.
البُعد الصحي والاجتماعي
إلى جانب التأثيرات النفسية، توجد أيضًا أخطار صحية لا تقل أهمية، خصوصًا في دور العرض الشعبية. فإذا تأملنا مدخل الدرجة الثالثة في بعض دور السينما، وجدنا مئات الصبيان بملابس متّسخة يتزاحمون للدخول، ليجلسوا بعدها فوق بعضهم البعض في مشهد مزرٍ، وسط مقاعد قذرة وأرضيات موبوءة بالحشرات، ويختلط الأمر بالتدخين وبقايا الأطعمة.
هذا الجو الموبوء الذي يقضي فيه الأطفال بضع ساعات أسبوعيًا يمثل خطرًا واضحًا على صحتهم البدنية والنفسية. وإن وقوفك على باب إحدى هذه الدور كفيل بأن يريك وجوهًا شاحبة، وأجسادًا مرهقة، وأذهانًا مشغولة بمحاكاة ما رآه الأطفال من عنف وتجاوز.
ضرورة التدخل المؤسسي
لقد بات واضحًا أن ضرر هذه الأفلام يتجاوز التسلية أو الترفيه، ويتحول إلى خطر اجتماعي يستدعي التدخل. فهل يعقل أن تظل أبواب السينما مفتوحة أمام الأطفال في مصر، بينما تمنع كثير من الدول المتقدمة من هم دون السادسة عشرة من دخولها؟ هل نحن في حاجة إلى تنبيه المسؤولين في وزارة الشؤون الاجتماعية والصحة والتربية، لكي يلتفتوا إلى هذه الكارثة الكامنة؟
لقد آن الأوان لاعتماد سياسة وقائية جادة، تستند إلى دراسات علمية واجتماعية، تُنظم دخول الأطفال إلى دور السينما، وتراقب نوعية الأفلام المعروضة، وتدعم الأسر في توجيه الأطفال نحو محتوى ثقافي وفني آمن يثري وجدانهم، بدلاً من أن يفسده .