اتجاهات الدراما المعاصرة:
قراءة في ضوء علم النفس والفن المسرحي
من الصعب أن نفهم اتجاهات الدراما الألمانية المعاصرة أو نفكك إشكالاتها بمعزل عن تطورات المسرح الأوروبي الحديث عمومًا؛ إذ تشترك في خصائصها وزخمها مع نظيراتها الغربية التي نشأت خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة من القرن العشرين. غير أن ذلك لا يعني إنكار فرادة بعض الكتّاب الألمان ولا الانتقاص من استقلالية المشاريع الفنية التي ميّزت مدارس تعبيرية ألمانية خاصة.
من أبرز سمات الدراما المعاصرة في ألمانيا، والمسرح الحديث عمومًا، ميلها إلى ما يمكن تسميته "تحطيم الإيهام" أو "تبديد الوهم المسرحي". والمقصود بذلك تجاوز تقنيات المسرح التقليدي الذي يسعى لإيهام المشاهد بأنه يعيش داخل واقع تمثيلي مطابق للحياة، والاتجاه بدلاً من ذلك إلى فضح التمثيل بوصفه ممارسة جمالية وواعية، تعلن عن نفسها ولا تتوارى.
ضد الإيهام: نحو دراما واعية بذاتها
الدراما غير الإيهامية هي التي تعمد إلى إبراز آليات العرض والتمثيل: استخدام الراوي، والخطاب المباشر للجمهور، والإيماءات الرمزية، والبانتوميم، والرقص، والأقنعة، وحتى الدمى المسرحية، بما يشبه مسرح العرائس. فهدفها ليس محاكاة الواقع بل تمثيله كفعل واعٍ ومُقصدن.
صحيح أن المسرح لا يستطيع، حتى في أفضل حالاته، أن يُوهم الحضور بأنه واقع معيش فعلاً، لأن التقاليد المسرحية – كالستائر، والمشاهد المفصّلة، والممثلين المعروفين – تعيد المشاهد دوماً إلى وعيه بالمكان المسرحي. إلا أن الدراما الحديثة لا تكتفي بهذه الحقيقة البديهية، بل تبني على أساسها موقفًا جماليًا وفلسفيًا يرفض الانخداع أو الانغماس في التوهم.
وقد يُقال إن كسر الإيهام أمر غير جديد، لكن طبيعته في المسرح الحديث تتجاوز الشكل لتبلغ المضمون. فهو يرفض تمثيل الحياة اليومية تمثيلاً ميكانيكيًا، ويعتمد بدلاً من ذلك على الرمز، والاستعارة، والغرابة، ليُحاكي الواقع من زاوية أعمق.
مسرح الإيهام: النزعة الطبيعية كنموذج
على النقيض من ذلك، كانت الدراما البرجوازية في القرن التاسع عشر – ومن بعدها المدرسة الطبيعية – تسعى إلى محاكاة الواقع بدقة، مع تقنيات إخراجية متقدمة تُحاكي البيئة الطبيعية صوتًا وصورة. وقد بالغت في استخدام اللغة اليومية، وحرصت على التقليل من الشاعرية، والإيحاء، والمبالغة التعبيرية. هذه النزعة، رغم دقتها، تجاهلت الجوانب الرمزية والجمالية والميتافيزيقية في المسرح.
ثورة ضد التقليد: من التعبيرية إلى المسرح الكلي
مع بداية القرن العشرين، بدأ مخرجون وكُتّاب في نقد هذا النموذج التقليدي، مدفوعين برغبة في تحرير المسرح من قيوده الأدبية والواقعية. وبدأت تتجلى حركة مسرحية جديدة تُعيد الاعتبار إلى الإيماءة، والغناء، والرقص، والأقنعة، والضوء، والرمزية البصرية.
لقد مهد لهذه التحولات كتّاب كبار، من أمثال أوغست سترندبرغ، وفرانك فيديكند، وبيراندللو، الذين اشتغلوا على كشف التمثيل، واللعب بالواقع، وتفكيك العلاقة بين الشخصية والممثل. وكذلك جوركي، وكلوديل، وهوفمان، الذين جربوا أساليب المسرح الكلي، أو التمثيل المتكامل الذي يتجاوز الكلمة إلى بقية عناصر التعبير المسرحي.
وتبرز هنا مسرحية "الملك أوبو" لألفريد جاري، بوصفها لحظة تأسيسية للمسرح المضاد للإيهام، وقد تركت أثرًا كبيرًا في مسرحيي العبث والسرياليين.
برشت والمسرح الملحمي: دراما الوعي والتغيير
لكن لا يمكن الحديث عن الاتجاهات الدرامية المعاصرة دون الوقوف عند برتولت برشت، الذي يُعد أحد أهم كتّاب المسرح في القرن العشرين. لقد طوّر برشت مفهوم "المسرح الملحمي" الذي يقوم على مبدأ التغريب، أي كسر اندماج المشاهد مع الحدث، وتوجيهه نحو التأمل والتفكير.
أدخل برشت إلى خشبة المسرح وسائل متعددة: الأغنية، والتعليق، والخطاب المباشر، والإشارات المكتوبة، بل والمشاهد السينمائية. وبدلاً من تقديم الواقع كما هو، كان يقدمه مُركبًا، مجزءًا، خاضعًا للقراءة والتحليل.
ولم تكن هذه التقنية غاية في ذاتها، بل وسيلة لتمرير مضمون اجتماعي وسياسي ذي طابع ماركسي. ففي مسرحية "إنسان شينشوان الطيب" مثلاً، يضع برشت النهاية في يد المتفرج، داعيًا إياه للتفكير وإيجاد الخاتمة. فالمسرح، في رؤيته، ليس تجربة عاطفية، بل درسًا في التاريخ والسياسة والوعي الطبقي.
خاتمة: المسرح كأداة للوعي والتحرر
اتجاهات الدراما المعاصرة، في ألمانيا وأوروبا عمومًا، تتسم بالتحول من التمثيل الواقعي إلى التمثيل الواعي بذاته. ومن خلال توظيف الأدوات البصرية والجسدية، والتفاعل مع الجمهور، وتفكيك اللغة المسرحية التقليدية، تؤسس هذه الدراما لمسرح جديد: لا ينسخ الواقع بل يعيد تشكيله.
وبين تقنيات التغريب عند برشت، ورمزية بيكيت، وسخرية جاري، وسريالية فيديكند، تتعدد المسارات، لكنها تلتقي جميعها في نفي الإيهام، وتأكيد الوظيفة الفكرية والنقدية للمسرح، بوصفه مرآة تتشظى، لا تعكس الواقع، بل تكشف عمقه المجهول.