الفتح الإسلامي لمصر: بين التحرير والاحتلال
مقدمة: تُعدّ مصر واحدة من أكثر البلاد التي مرّت بتحولات سياسية وثقافية حادة عبر تاريخها الطويل، ولا شك أن الفتح الإسلامي لمصر سنة 639م بقيادة عمرو بن العاص، يُعد من أهم الأحداث الفاصلة في تاريخها الوسيط. هذا الحدث الذي شكّل نقطة تحول سياسية، دينية، واقتصادية، ما زال محل جدل بين كونه تحريرًا من اضطهاد بيزنطي أم شكلاً جديدًا من الاحتلال العسكري.
1. السياق السياسي والديني قبل الفتح: شهدت مصر في أواخر الحكم البيزنطي اضطرابات سياسية وانقسامات دينية حادة. فقد أدى الصراع بين الكنيسة الملكانية والكنيسة القبطية إلى اضطهاد ديني واسع، خاصة في عهد البطريرك الملكاني "سيروس" (المقوقس)، الذي مارس قمعًا شديدًا على أتباع المذهب اليعقوبي، مما دفع البطريرك بنيامين الأول إلى الهرب والاختفاء لعشر سنوات.
2. الفتح العربي لمصر: بدأت الحملة الإسلامية على مصر سنة 639م، بعد نجاح المسلمين في السيطرة على الشام وفارس. دخل عمرو بن العاص مصر من الشرق عبر رفح والعريش، وتمكن من السيطرة على مدينة الفرما بعد معارك عنيفة، ثم تقدم نحو بلبيس فحصن بابليون، حيث خاض المسلمون حصارًا طويلاً استمر حتى أغسطس 640م. انتهى الحصار بدخول الحصن بعد تسلل الجنود العرب إليه بقيادة الزبير بن العوام.
3. معاهدة بابليون: عقد عمرو بن العاص اتفاقًا مع المقوقس نصّ على دفع الجزية السنوية وقدرها ديناران على كل ذكر بالغ، إضافة إلى ضرائب على الأرض والغلال، وتقديم كسوة سنوية للمحاربين العرب. وقد ضمنت المعاهدة حرية المعتقد للمصريين، ومنعت المساس بممتلكاتهم وكنائسهم.
4. موقف المصريين من الفتح: أظهرت المصادر التاريخية أن المصريين لم يكونوا موالين للبيزنطيين بسبب الاضطهاد الديني، بل كان بعضهم متعاونًا مع الجيش العربي، بل وساهموا في القتال في بعض المواقع مثل تنيس. كان الموقف الشعبي يميل للحياد أو القبول بالسلطة الجديدة التي منحتهم حرية دينية نسبية مقارنة بالحكم البيزنطي.
5. تأسيس الفسطاط وتغير مركز السلطة: أسس العرب مدينة الفسطاط قرب حصن بابليون، لتكون العاصمة الجديدة بدلًا من الإسكندرية. شارك المصريون في بنائها، وسمح لهم ببناء كنائس فيها، مما أسس لنوع من التعايش في المرحلة الأولى.
6. النظام الضريبي وتغيراته: احتفظ العرب في البداية بالنظام الضريبي البيزنطي، حيث فُرض خراج الأرض بالإضافة إلى الجزية. في عهد عمرو بن العاص، خُففت الضرائب لتبلغ 12 مليون دينار، مقارنة بـ20 مليونًا أيام البيزنطيين. لكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم، إذ زادت الضرائب لاحقًا في عهد عبد الله بن سعد، وبدأت المعاناة الاقتصادية تتفاقم.
7. العرب والمجتمع المصري: اتسمت العلاقة بين العرب والمصريين في البداية بعدم التدخل في الشؤون الدينية للأقباط، كما تم استخدام الأقباط في دواوين الضرائب والإدارة المحلية. لكن لاحقًا، بدأت تتسرب مظاهر التمييز والاضطهاد، خاصة مع تغير السياسات وتبدل الولاة.
8. التحولات الثقافية والدينية: شهدت مصر تعريبًا تدريجيًا بدءًا من دواوين الدولة في الفسطاط، وتم أسلمة المجتمع عبر سياسة ناعمة شملت بناء المساجد الكبرى مثل جامع عمرو بن العاص، والتوسع التدريجي في استخدام اللغة العربية في الإدارة. استمرت اللغة القبطية إلى القرن الثامن، لكن مكانتها تراجعت تدريجيًا.
9. الفتح بين التحرير والاحتلال: رغم أن الفتح الإسلامي أنهى فصولًا مريرة من الاضطهاد الديني الذي مارسه البيزنطيون، إلا أنه جلب معه شكلًا جديدًا من السيطرة السياسية والاقتصادية، وبدأت الدولة الإسلامية في استغلال خيرات مصر لدعم الخلافة، مما يجعل وصفه بالتحرير محل تأمل.
خاتمة: الفتح الإسلامي لمصر كان حدثًا مفصليًا له أبعاد متعددة، فقد أنهى الاضطهاد البيزنطي، وأسس لمرحلة جديدة من الإدارة والسياسة. لكنه أيضًا نقل مركز السلطة من الخارج إلى الخارج مرة أخرى، وأسس لنظام اقتصادي جديد لم يختلف جوهريًا عن سابقه من حيث تحميل الفلاح المصري أعباء الضرائب. وبين التحرير والاحتلال، تظل هذه المرحلة صفحة معقدة من صفحات التاريخ المصري