اتجاه النقد التقويمي: بين الفن والحياة
إذا كان ثمة فنٌّ يُنتج من أجل ذاته، أو "فنٌّ للحياة"، فثمة أيضًا نقدٌ يُمارس لذاته، ونقدٌ يُكتب من أجل الحياة. وقد تبلغ مدرسة "النقد لذاته" ذروة تطرفها حين تنغلق على نفسها، وتغرق في رنين الكلمات، وتنشغل بتصنيف المفردات التي استخدمها الأديب المبدع، متناسيةً أن للأدب وجهًا آخر يتصل بالحياة لا ينفصل عنها. هي مدرسة تُحلِّل البناء الفني الداخلي للعمل – بدايته ووسطه وعقدته ونهايته – دون أن تُعنى بموقف الفنان من قضايا الوجود أو رؤيته الأخلاقية والاجتماعية.
في مقابل هذا الاتجاه الشكلي، يظهر تيار نقدي آخر، يُعلي من شأن المضمون، ويُقيّمه بقدر ما يُعبر عن موقف إنساني صادق، ويربط بين الفن والحياة بتلقائية لا تصطنع، بل يرى في العمل الفني تجسيدًا لوعي الفنان بالحياة، ولرؤيته لما ينبغي أن يكون.
يمثّل الناقد الإنجليزي فرانك ريموند ليفز (F. R. Leavis) أحد أبرز أعمدة هذا الاتجاه، الذي يمكن وصفه بـ"النقد التقويمي"، لاهتمامه بقيمة النص الأدبي في ضوء تأثيره في الوعي الإنساني، وجدّيته في التعبير عن قضايا الإنسان. ويصفه جورج واطس في كتاب نقاد الأدب بأنه "أكثر نقاد القرن العشرين البريطانيين تأثيرًا"، مشيرًا إلى اختراقه الأوساط الأكاديمية والتعليمية في بريطانيا، وقدرته على التأثير في المناهج الدراسية دون أن يكون تابعًا لتيار نقدي مغلق.
ليفز والانحياز للحياة
لم يكن ليفز شاعرًا أو روائيًا، ولم يشتغل بالصحافة أو الكتابة الإبداعية، بل كرّس حياته كلها للنقد، واستطاع أن يُميّز نفسه عن معاصريه بالتركيز الخالص على النقد الأدبي في جانبيه: النظري والتطبيقي. وقد عاب على ت. س. إليوت اقتصار اهتمامه النقدي على الشعراء الذين يخدمونه في مشروعه الإبداعي، معتبرًا أن إليوت يستخدم النقد ليُبرر اختياراته الفنية لا ليفتح أفقًا معرفيًا أمام القارئ.
يرى ليفز أن الأدب الحقيقي لا ينفصل عن الحياة، وأن الفنان الجاد هو مَن يعبّر بصدق عن نضجه الإنساني والفكري، وأن اكتمال الرؤية الأخلاقية عند الأديب لا بد أن ينعكس على اكتمال شكل عمله. من هنا، جاء اهتمامه العميق بديفيد هربرت لورانس، وكرّس له كتابًا بعنوان د. هـ. لورانس روائيًا (1955)، عارضًا فيه موقفه الواضح: "إذا لم يُمنح كاتبٌ مثل لورانس ما يستحق من الاعتراف، فقد ضاعت منا قوة حياتية عظمى نحن في أمسّ الحاجة إليها في هذا العصر المُضطرب".
النقد كدعوة تربوية وأخلاقية
يُعد ليفز امتدادًا لماثيو أرنولد في اهتمامه بالصلة بين الأدب والثقافة، بين الفن والتربية، بين الكاتب والواقع. ففي مؤلفاته – مثل الثقافة والبيئة (1923، بالاشتراك مع دينيس طومسون)، والميراث العظيم (1948)، والمسعى المشترك (1952) – نجد تركيزًا على الوظيفة الثقافية والأخلاقية للأدب، وإيمانًا بأن الأدب الجاد يرقى بالإنسان ويعيد صقله.
في تحليله للورانس، لا يهتم ليفز بـ"الصنعة" بقدر ما يهتم بموقف الكاتب من الحياة. يرفض الصورة التي رسمها بعض النقاد للورانس بوصفه رومانسيًّا متطرفًا، أنانيًّا، متعجرفًا، ويؤكد أن عظمة لورانس تكمن في قدرته على التعبير عن الحياة بعمق وإيجابية. يربط ليفز بين النضج النفسي للفنان وجودة نتاجه الإبداعي، ولهذا يفضل قوس قزح على أبناء وعشاق، لأن الأولى ثمرة نضجٍ بينما الثانية حصيلة اضطرابٍ.
الخصومة النقدية مع إليوت
كان ليفز خصمًا نقديًّا شرسًا لـ ت. س. إليوت، ورأى في أعماله – ولا سيما حفل الكوكتيل – نموذجًا للفن الذي يرفض الحياة، ويعكس اشمئزازًا من العالم، وابتعادًا عن الإنسان العادي وهمومه. ورغم اعترافه بفضل إليوت في تجديد النقد، لم يغفر له احتقاره للورانس، ولا انغلاقه على نخبة شعرية ضيقة. كما لم يكن ليفز من أنصار جيمس جويس، ولا تأسره التجريبية الشكلانية، بل يرى فيها انفصالًا عن المضمون، واستهلاكًا للّغة على حساب الفكرة.
الأحكام القيمية عند ليفز
يستند ليفز في نقده إلى ما يُسميه "الأحكام القيمية"، وهي تلك التي تصدر عن وعي الناقد بما هو صحي وما هو ضار في عصره، عن شعور أخلاقي يتجاوز الذوق الفني إلى المسؤولية الثقافية. لم يكن من أولئك النقاد الذين يُفرطون في التنظير، أو يُسقطون نظريات جاهزة على النصوص، بل كان يُصرّ على التعامل مع كل عمل أدبي كحالة خاصة، تتطلب من الناقد أن يكون قارئًا مثاليًا لا مجرد محلل ميكانيكي.
مجلة "سكرونتي": تمحيص الأدب والحياة
أسّس ليفز مع آخرين مجلة سكرونتي (Scrutiny) عام 1932، وظلت تصدر حتى 1953، واعتُبرت من أبرز المجلات النقدية في القرن العشرين. لم تكن المجلة مجرد منبر لتحليل النصوص، بل كانت تمثّل اتجاها نقديًا يرى أن الأدب الحقيقي لا ينفصل عن الواقع، وأن وظيفة النقد لا تقتصر على التفسير، بل تمتد إلى التأثير في الحياة والفكر. رفضت المجلة الانبهار بالشكل وحده، أو الانسياق خلف موضة نقدية، بل وقفت على مسافة من "النقد الجديد" الذي غرق في البلاغة والتحليل اللفظي.
من مبادئ المجلة رفض التحيز الشخصي في النقد، ورفض مبدأ "الحكم المسبق" على الكاتب بناءً على أعماله السابقة. ولهذا لم يتردد ليفز في انتقاد إليوت رغم إعجابه القديم به، أو في وصف رواية عشيقة الليدي تشارلز للورانس بأنها "رواية رديئة"، رغم حبه الكبير للكاتب.
ناقد معلّم: الأدب بوصفه تربية
كان ليفز في عمق شخصيته ناقدًا تربويًا، يكتب بروح المعلّم، ويشرح ويوضح ويستفيض، رغبة في التأثير لا الاستعراض. لم يكن يؤمن بالمسطرة النقدية، بل بالمعايشة الوجدانية للنص. وفي موقفه من الشعر، فرّق بين الفلسفة كمنهج تجريدي، والشعر كفنٍّ حيّ، يتعامل مع الواقع الحسي ويستثير الشعور. كان يكره التفسير الزائد، والرمزية المتكلّفة، ويحب الشعر الذي يُمسَك ويُعاش.
الختام: إرث لا يُنسى
رغم وفاة مجلة سكرونتي بسبب تفكك طاقمها إثر الحرب، ظل تأثيرها قائمًا، وأُعيد طبع أعدادها الخمسين في مجموعة فاخرة، اقتُنيت في مكتبات كبرى، واحتُفي بها بوصفها "حدثًا أدبيًا"، واعترافًا بدور ليفز الريادي في توجيه النقد نحو غايات أعمق من الزينة البلاغية.
يظل فرانك ليفز صورة للناقد الذي لم ينكفئ على ذاته، بل جعل من النقد رسالة تربوية وأخلاقية، تؤمن بالحياة وتخوض من أجلها معارك فكرية، دون مواربة أو تزويق. وفي خصومته العنيفة مع إليوت، ربما نلمح مفارقة العباقرة: "فقمم الجبل لا تتلاقى".