الإبداع في الفكر العربي والشرقي :
دراسة نفسية ثقافية مقارنة
مقدمة
يُعد الإبداع من أبرز سمات التميز البشري، وهو القدرة على الإتيان بالجديد أو إعادة تشكيل القديم بصورة مبتكرة وغريبة، تثير الدهشة وتفتح آفاقًا جديدة للفكر والتعبير. وقد تنوعت تعريفات الإبداع وتباينت عبر الحضارات والثقافات، بين من ربطه بالقوى الغيبية أو الروحية، ومن فسره وفق معايير عقلانية أو نفسية أو اجتماعية.
يهدف هذا البحث إلى استعراض مفهوم الإبداع في الفكر العربي قديمًا وحديثًا، ومقارنته بالتصورات الشرقية، لا سيما الهندية، مع الإشارة إلى التحولات النفسية والثقافية التي صاحبت كل مرحلة.
أولًا: الإبداع في الفكر العربي القديم
ارتبط مفهوم الإبداع عند عرب الجاهلية بالغيبيات، وخصوصًا بالجن والشيطان، إذ لم يكن يُنظر إلى الشاعر كمبدع مستقل بوعيه، بل كناقل لما يُملى عليه من قوى خارقة. وكان يُقال إن لكل شاعر قرينًا من الجن يوحي إليه الشعر، حتى ساد الاعتقاد بأن الشعر موهبة ممزوجة بمسٍّ شيطاني.
يقول أبو العلاء المعري:
وقد كان أرباب الفصاحة كلما رأوا حسنًا عدّوه من صنعة الخيال
وقد جعل العرب لوادي الجنّ اسمًا خاصًا هو وادي عبقر، فارتبطت به مفردة "عبقري" للدلالة على كل ما هو فائق ومتفرد. ومن هذا المنطلق، نُسب لكل شاعر قرين من الجن، مثل:
• امرؤ القيس: صاحبه لاقط بن لاحظ
• النابغة الذبياني: هاذر بن ماهر
• الأعشى: مسحل السكران
• عنترة بن شداد: جالد بن ظل
وقد انعكس هذا التصور في آداب العرب، فنجد مثلًا الفرزدق يقسم الشعر بين شيطانين:
• الهوجل: المسؤول عن الشعر الجيد
• الهوبر: الموكل بالشعر الرديء
كما نجد بعض التهكمات التي تنمّ عن وعي فكاهي مبكر تجاه هذه الفكرة، كما في قول الشاعر:
إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
فلما رآني شاعرٌ إلا استتر كفعل نجوم الليل عاين القمر
وقد فسر العرب توارد الخواطر بين شاعرين بأنه نتيجة أخذ كليهما عن شيطان واحد، كما ورد في مواسم الأدب في قصة الفرزدق وجرير.
ثانيًا: الإبداع عند المحدثين من العرب
مع تحولات الفكر العربي في العصر الحديث، تراجعت فكرة الشيطان كملهمٍ للشاعر أو الكاتب، لتحل محلها نظرة عقلانية ترى الإبداع كنتاج لتفاعل عوامل متعددة مثل الثقافة والبيئة والتجربة الشخصية.
ففي قصيدته "ترجمة الشيطان"، يقول العقاد مخاطبًا الشيطان:
أيها الشيطانُ أضلِل من تشاء سوف تأويك وتأويه الجحيم
لم يعد الشيطان مصدر الإبداع، بل رمزًا للشرّ والانحراف. وصار المبدع يُنظر إليه كفاعل عقلاني يمتلك أدوات إنتاجه الفني والمعرفي.
يرى الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود أن الوطن العربي، منذ سقوط بغداد، دخل في نفق من الاجترار الثقافي، نتيجة لعصور الانحطاط الفاطمي والمملوكي والعثماني، حيث فقدت الثقافة العربية قدرتها على الابتكار.
لكن مع بدايات القرن التاسع عشر، بدأت نهضة عربية من مصر، وتدفقت إلى أرض الكنانة أقلام من مختلف الأقطار العربية، خصوصًا من بلاد الشام، فكانت بداية لتشكل جيل جديد من المبدعين مثل:
• محمود سامي البارودي
• أحمد شوقي
• حافظ إبراهيم
• شعراء المهجر
• رواد مدرسة أبولو
وقد ظهر الإبداع في هذه المرحلة بثوب حداثي جديد، متحرر من الأساطير القديمة، متجذر في التجربة الذاتية والاجتماعية للمبدع، وتخلص تدريجيًا من سلطة التقليد والتابوهات الغيبية.
ثالثًا: الإبداع في الفكر الهندي
تُعد الحضارة الهندية من أعرق الحضارات، وقد أولت اهتمامًا كبيرًا بالجوانب الروحية والفكرية. فرغم هيمنة النزعة الدينية على كتاباتهم، فإن الإبداع لم يكن غائبًا عن فكرهم، بل كان حاضرًا في الشعر والملاحم والفلسفة والموسيقى.
ويمكن القول إن الإبداع الهندي امتاز بالربط العميق بين الذات والتأمل، بين الإحساس والوعي الكوني، كما يظهر في الفيدا والمهابهاراتا والرامايانا، وغيرها من النصوص المقدسة التي تجمع بين السرد الرمزي والحكمة الإنسانية العميقة.
لقد أسهمت الديانات الهندية مثل البوذية والهندوسية في تشكيل رؤية متسامحة وجمالية للعالم، فكان الإبداع عندهم وسيلة للخلاص، ومظهرًا من مظاهر التجلّي الإلهي في النفس البشرية.
خاتمة
إنّ الإبداع لا يمكن اختزاله في بعدٍ واحد، بل هو نتاج مركب من المؤثرات النفسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية.
فبينما ربط العرب في الجاهلية الإبداع بالشيطان والجن، بدأت الشعوب الأخرى مثل الهنود تنظر إليه كفعلٍ روحي وتعبير عن الانسجام الكوني. أما في العصر الحديث، فقد تحوّل الإبداع العربي إلى ساحة عقلانية مفتوحة على التجربة الذاتية والتحرر من الموروث الغيبي.
ويبقى السؤال مفتوحًا: كيف يمكن للثقافة العربية المعاصرة أن توازن بين أصالتها وتاريخها، وبين حاجتها الملحة إلى تجاوز "الاجترار" واستعادة روح الخلق والابتكار؟