الجنسانية النسوية: جدليات الاختلاف بين خطاب التمكين وخطاب المقاومة

الجنسانية النسوية: جدليات الاختلاف بين خطاب التمكين وخطاب المقاومة
تُعد الجنسانية إحدى أبرز القضايا التي أثارت جدلًا واسعًا داخل التيارات النسوية، حيث تباينت المواقف تجاهها بين من تنظر إليها كمساحة للتمكين والتحرر الذاتي، ومن تراها أداة للهيمنة الذكورية والتشييء الجنسي للمرأة. هذا التباين أدّى إلى انقسامات حادة، وأفضى إلى ما سُمّي بـ"حروب الجنس" داخل الحركة النسوية، خصوصًا في نهايات القرن العشرين. يحاول هذا البحث تفكيك أبرز الخطابات النسوية المتعلقة بالجنسانية، واستعراض الاتجاهات المختلفة ما بين مناهضات الإباحية والدعارة، والمؤيدات للحرية الجنسية، من خلال تحليل نقدي لأهم الأسماء والتيارات والمؤسسات التي ساهمت في تأطير هذا الصراع النظري والحقوقي. أولًا: النسوية الراديكالية ونقدها للجنسانية كأداة هيمنة تتبنى العديد من النسويات الراديكاليات موقفًا نقديًا حادًا تجاه تجليات الجنسانية في المجتمعات الحديثة، خصوصًا من خلال صناعة الجنس والإعلام الجنسي. وترى هذه التيارات أن الممارسات الإباحية والدعارة ليست إلا امتدادًا لهيمنة الذكر على جسد المرأة، وأداة لتكريس سلطة جنسية ذكورية تتعارض مع الكرامة الإنسانية للمرأة. تُعد أندريا دوركين وكاثرين ماكينون من أبرز المنظّرات لهذا التوجه، حيث طالبتا بتجريم المواد الإباحية، معتبرتين إياها تمثيلًا صريحًا لخضوع النساء، ومظهرًا مؤسساتيًا للعنف الجنسي. وقد ساهمتا في تأسيس حركة «نساء ضد العنف في المواد الإباحية والإعلام»، التي قادت العديد من الحملات المناهضة للمواد الإباحية والدعارة في الثمانينيات، خاصة في سان فرانسيسكو. ثانيًا: حروب الجنس النسوية: لحظة الانقسام بين تيارين شهدت نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ما سُمّي بـ"حروب الجنس" داخل الحركة النسوية، وهي سلسلة من السجالات النظرية والسياسية حول الجنسانية، والمواد الإباحية، والدعارة، وحرية الجسد. انقسمت الحركة إلى تيارين رئيسيين: • التيار المناهض للجنس (Anti-Sex Feminism): يربط ممارسة الجنس في ظل النظام الأبوي بالاستغلال والإخضاع. • التيار المؤيد للجنس (Sex-Positive Feminism): ينادي بإعادة تأويل الجنسانية بوصفها أداة تمكين واختيار فردي. وكان مؤتمر بارنارد للجنسانية عام 1982 محطة مفصلية في هذا الصراع، إذ أقصي فيه التيار المناهض للإباحية من التنظيم، ما دفع المعارضات إلى التظاهر خارج المؤتمر، في تعبير رمزي عن عمق الانقسام داخل النسوية المعاصرة. ثالثًا: نقد صناعة الجنس واستراتيجيات المقاومة يعتبر التيار المناهض لصناعة الجنس أن هذه الصناعة تُسهم في تعميق التمييز على أساس الجنس، وتُنتج تمثيلات نمطية تختزل المرأة في كونها أداة للمتعة الذكورية. وتستند هذه الحجة إلى ملاحظات على المحتوى الجنسي العنيف، ولا سيما في أنماط "الغونزو" الإباحية التي تُظهر النساء في حالات خضوع شديد وإذلال جسدي ونفسي. وترى غيل داينز -إحدى أبرز المنظّرات في هذا الاتجاه- أن صناعة الجنس لا تمثل فقط تسليعًا للجسد الأنثوي، بل تُعيد إنتاج الهويات الجنسية التقليدية على نحو قمعي. وعليه، فإن النسوية الراديكالية تُطالب بتفكيك هذه البنى الإعلامية، وتقديم بدائل ثقافية تُعيد الاعتبار للجسد الأنثوي بوصفه ذاتًا فاعلة لا موضوعًا للهيمنة. رابعًا: النسوية المؤيدة للجنس: الجسد كمساحة تحرر في المقابل، ترى "النسويات المؤيدات للجنس" أن الجنسانية ليست بالضرورة أداة قمع، بل قد تكون وسيلةً للتحرر والتعبير الذاتي، إذا تمت ممارستها بحرية واختيار. وترفض هذه النسويات الخلط بين الجنسانية والهيمنة، ويطالبن بالاعتراف برغبة المرأة ومتعها دون وصاية أخلاقية أو أيديولوجية. برزت أسماء بارزة في هذا الاتجاه مثل: غايل روبين، باتريك كاليفيا، كارول كوين، وسوزي برايت، اللواتي دافعن عن الجنسانية بوصفها جزءًا من الهوية الفردية غير القابلة للتنميط القسري أو التحجيم المؤسسي. كما ظهرت اتجاهات جديدة في إنتاج "مواد إباحية نسوية" تراعي التعددية الجندرية، وتعكس رغبات النساء لا استغلالهن. خامسًا: موقف النسوية من المواد الإباحية: بين الرفض المشدد والانخراط النقدي يُشكّل الموقف من المواد الإباحية أحد أكثر جوانب السجال النسوي إثارةً للجدل. ففي حين ترى النسويات الراديكاليات أن الإباحية تُكرّس العنف الرمزي والمادي ضد المرأة، وتُساهم في تطبيع السلوك الذكوري العدواني، فإن مؤيدات الإباحية يعتبرنها منصة تعبير عن رغبة المرأة وهويتها الجنسية. وبينما تدافع ماكينون ودوركين عن تعريف الإباحية بأنها "إخضاع جنسي صريح للنساء من خلال الصور أو الكلمات"، ترفض "نسويات من أجل حرية التعبير" هذا التعريف، وتنتقدن الرقابة بوصفها أداة سلطوية تُستخدم عبر التاريخ لإسكات النساء وليس لحمايتهن. ويُشرن إلى أن الرقابة على الخطابات الجنسية للمرأة لا تعالج جذور العنف، بل تعيد إنتاج ثقافة القمع بوجه جديد. خاتمة تُظهر الخلافات النسوية حول الجنسانية تعددية المواقف الفكرية والسياسية داخل النسوية المعاصرة. فبين خطاب المقاومة الراديكالي الذي يرى الجنسانية فضاءً للهيمنة والتسليع، وخطاب التمكين الذي يعيد للجسد الأنثوي حريته وشرعيته، يبقى النقاش مفتوحًا حول موقع المرأة من الجنسانية في ظل تداخلات السلطة والثقافة والرغبة. إن هذا التباين لا يمثل تفتتًا في الحركة النسوية بقدر ما يعكس عمق الأسئلة التي تثيرها علاقات الجندر والسلطة والرغبة في المجتمعات الحديثة. المراجع (نموذجية : ( • Dworkin, Andrea. Pornography: Men Possessing Women. Putnam, 1981. • MacKinnon, Catharine A. Only Words. Harvard University Press, 1993. • Willis, Ellen. “Feminism, Moralism, and Pornography.” The Village Voice, 1981. • Rubin, Gayle. “Thinking Sex: Notes for a Radical Theory of the Politics of Sexuality.” In Pleasure and Danger, edited by Carole Vance, 1984. • Dines, Gail. Pornland: How Porn Has Hijacked Our Sexuality. Beacon Press, 2010.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال