أبهة الملوك: من التيجان إلى القصور
في كل حضارة إنسانية، ارتبطت السلطة الملكية بمظاهر الفخامة، وارتدت القوة لباس الرموز الباهرة: التيجان، والصوالجة، والعروش، والقصور. تجليات الأبهة هذه لم تكن مجرد زينة، بل أدوات رمزية للهيبة والسيطرة، امتزج فيها الفن بالتاريخ، والدين بالسياسة، والأسطورة بالواقع.
التيجان والعمائم: رمزان شرقي وغربي
تنقسم الأكاليل الملكية إلى نوعين: التيجان والعمائم.
وتختلف تيجان ملوك الغرب عن عمائم ملوك الشرق في المنشأ والدلالة والبيئة الثقافية.
ففي الغرب، تعود التيجان إلى أكاليل الغار التي توج بها الإغريق الفائزين في الألعاب الأولمبية، ثم تحولت في العصر الروماني إلى وسيلة لتكريم من قدموا خدمات عظيمة للدولة. لم يكن يُسمح للأباطرة الرومان بارتداء التاج إلا في الاحتفالات، ولكن مع مرور الزمن وتضخم الطغيان، جعل الأباطرة من التيجان زينة دائمة.
ومن أشهر التيجان التاريخية:
• التاج الحديدي المحفوظ في مورا، والمكوَّن من شريط حديدي وست صفائح ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة. ويُقال إن الحديد فيه صيغ من أحد المسامير التي صُلب بها المسيح عليه السلام.
• تاج شارلمان، ويتكون من أربع صفائح ذهبية كبيرة وأربع صغيرة.
• تيجان ملوك الأندلس، وعددها سبعة، تعود للقرن السابع الميلادي، وهي مصنوعة من قضبان ذهبية مرصعة بالجواهر، وقد اقتنتها فرنسا وأودعتها متحف اللوفر.
أما الباباوات، فجمعوا بين التاج الغربي والقلنسوة الشرقية في شكل مركب، يرمز لاتحاد السلطتين الزمنية والروحية.
وفي الشرق، اتخذ سلاطين الدولة العثمانية العمامة المزينة بالجواهر تاجًا رسميًا في المناسبات الكبرى، قبل أن يستبدلوها تدريجيًا بالطربوش البسيط، انسجامًا مع روح "الحضارة الحديثة".
القلنسوة والعمامة الشرقية
ترجع القلنسوة إلى مصر الفرعونية، وكانت بدايةً بسيطة ثم تطورت زخرفيًا. ومنها نشأت العمامة التي أصبحت شعارًا لملوك الهند وفارس والترك، وكذلك خلفاء العرب، من أمويين وعباسيين وفاطميين وأندلسيين، الذين تميزوا بعمائم غير مرصعة، إذ اعتمدوا على هيبة الشخصية لا الزينة الخارجية. فالقيادة، كما أثبت التاريخ، قد تصنع المعجزات بغير تاج ولا درٍّ.
العروش: عظمة الجلوس وحكمة التواضع
العرش ليس مجرد مقعد، بل رمز للحكم وبداية السلطة. غالبًا ما يتألف من كرسي فوق منصة ذات درجات. ويرجح أن العرش اختراع شرقي، إذ عُثر في خرائب آشور على عرش من المرمر للملك سنحاريب. أما عرش سليمان عليه السلام، فكان نموذجيًا لدرجة أن أباطرة بيزنطة حاولوا تقليده بدقة.
ويذكر التاريخ عرش بلقيس، الذي وصفه المؤرخون بأنه تحفة فنية من الذهب والفضة والدر والجواهر، يقوم على أربع قوائم من الأحجار الكريمة، ويصل طوله إلى 80 ذراعًا.
ومن أبهى العروش في التاريخ:
• عرش الطاووس الذي أمر بصنعه شاه جيهان، ملك الهند، وبلغت درجة فخامته أن طاووسين مرصعين بالألماس كانا يرفرفان فوقه.
• أما في أوروبا، فقد تفوّق ملوك الروس في أبهة العروش، بينما ظل ملوك بريطانيا بلا عرش فعلي.
وفي المقابل، كان عرش عمر بن الخطاب من الرمل والحجارة، وهو رمز زاهد للحكم، يليق بخليفة جعل الأرض كلها عرشًا للحقيقة والعدل.
كانت العصا، ولا تزال، رمزًا للسلطة ووسيلة لإصدار الأوامر.
تذكرنا دُرَّة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التي هابتْها الرقاب، بأنها كانت أبلغ من صوالجة الأباطرة، فقد رُهبت لا بالذهب، بل بالعدل.
وقد استخدم الفراعنة الصولجان في تماثيلهم، كرمز للقوة. وفي روما، كانت العصا أداة للجنرالات في ساحات القتال، تُرفع لتُرى من بعيد. تطورت بعد ذلك لتُصنع من العاج والذهب والفضة، وتُرصع بالأحجار الكريمة، وانتقلت من الشرق إلى الغرب مع امتداد نفوذ الملكيات.
القصور: بين الحصون والمآثر الفنية
كانت القصور في بدايتها حصونًا منيعة تعجّ بالأبراج، ثم تحولت إلى رموز للفخامة والجمال، محاطة ببساتين شاسعة، وغرفها مترامية، وأبوابها شاهقة.
يُروى عن قصر بلقيس أنه شُيد من 500 عمود من الرخام، نصبت على تلّ، وسُقفت بالرّصاص، وزُخرف بالذهب والفضة والياقوت. وكان لكل ركن فيه وظيفة سياسية أو بروتوكولية.
وتعد الهند أغنى بلاد العالم بالقصور الملكية، إذ يملك كل راجا قصورًا متعددة: للحكم، وللصيف، وللشتاء، وللصيد، وللضيوف.
وأعظم قصور العالم:
1. قصر بندر في الآستانة – فخم يتجاوز الوصف.
2. قصر فرساي في فرنسا – تحفة معمارية بناها لويس الرابع عشر، واستُلهم منه طراز معظم القصور الأوروبية.
3. قصر بكين الإمبراطوري – يتضمن بحيرة ودارًا من المرمر.
4. قصر الكرملين في موسكو – مقر العائلة القيصرية، ويسكنه ستالين لاحقًا.
5. قصور بكنجهام وسانت جيمس في لندن، وبوتسدام في برلين.
وتظل القصور الملكية العربية متميزة في جمعها بين البساطة والأبهة، وبين الرقة والجمال، شاهدة على حضارة جمعت بين الروح والفن.
ختامًا
في كل تاج حجر يروي قصة، وفي كل صولجان قبضة سلطة، وفي كل عرش ظلٌّ لحاكم، وفي كل قصر نافذة على مجدٍ مضى. ولكن العظمة لا تقاس فقط بالأحجار الكريمة، بل بالتاريخ الذي تكتبه الأفعال، وبالقيم التي تتجسد في القادة... فمن درة عمر إلى تاج شارلمان، تتعدد الأبهة، ويبقى الإنسان سيد الرموز.