حُلْمُ المُعَلِّم وجدان

حُلْمُ المُعَلِّم وجدان
شقَّ صياحُ الديكة حجابَ السكون، كأنّه نداءٌ كونيٌّ يُوقظ الأرواح النائمة من سباتها العميق. تسلّل نور الفجر خجولًا متعثر الخطى، تائهاً بين غيوم الهمس، ليغمر بيتًا صغيرًا في حيّ باب الشعرية، بيت المعلم وجدان ، ذلك الرّكن الوادع وسط حارة تغصّ ببيوتٍ متهالكة، تنام على أوجاعها وتستيقظ على أملٍ متروك على عتبة الشمس. وفجأة، انبعث صوت مكتوم من داخل البيت، تلاه سعالٌ مختنق وتهامس غامض، ثم ظهر المعلم وجدان ... يتثاءب، يسعل، ويتقدّم ببطء في صدارته القطنية وسرواله الطويل، يضرب الأرض بقبقابه كما لو كان يوقظها من غفوتها، ويطلق زفرة ساخنة ممزوجة بالبصاق والحنق. اقترب من النافذة، ووقف هناك... يستقبل نسيم الفجر كأنه يتلقّى قبلة السماء، يتأمل السماء، يسبّح في صمتٍ مهيب، كما لو أنّه يستدعي أرواح الأيام الماضية. كان وجدان في الستين من عمره، جسده لا يزال متماسكًا، عضلاته مشدودة، والدم يجري في عروقه بحرارة الماضي. صاحب قهوة صغيرة في الحي ، يفتحها كل صباح ليستقبل لفيفًا من العمال الذاهبون إلى أعمالهم، يشربون القهوة ويدخنون الجوزة، ويتسامرون حول قضايا الدنيا. وقف وجدان طويلًا عند النافذة، ونسائم الفجر تدغدغ وجهه العريض، سال العرق من جبهته متلألئًا كأنّه لؤلؤ الفجر، ثم قال بصوتٍ خافت: "آه يا أيام... ثلاثون عامًا وأنا أطلّ من هذه النافذة، أرى ذات السماء لا تشيخ، تزداد نضارة وفتنة، بينما وجهي بات خريطة تعب رسمها الزمن... أين ذهب الوسام؟ أين مضى الشباب؟" ثم عاد إلى فراشه ثانية، وتمدد كجبل منهك، يبحملق في سقف الغرفة، ثم غفا... وغرق في حلم. رأى نفسه يعاشر امرأة نضرة الصبا، وجهها خمري، ضحكتها موسيقى، عيناها ناعستان تقطران سحرًا، وعلى خديها نتوء ساحر يضطرب مع كل ابتسامة. كانت تلاعبه وتداعبه بحنان، وهو يقلب نظره في وجهها مأخوذًا، بينما يمصّ من غابة الجوزة أنفاسًا طويلة، وقد أسدل جفنيه كأنه غارق في فردوس. استيقظ من نومه، فوجد المكان خاوٍ على عروشه. زوجته كانت قد سافرت لأهلها. أطلق زفرة طويلة، واستعاد الحلم... وشعر بخدرٍ جميل يسري في أطرافه، وارتسمت على وجهه ابتسامة شاحبة وقال هامسًا: "ما أسعدني لو كان هذا الحلم حقيقة... زوجتي شاخت، ذبلت، وانطفأ فيها وهج الصبا." ونهض يغتسل، وخرج إلى قهوته كئيبًا، شاحب الوجه، ثقيل الخطى. استقبله صبي القهوة بتحية صباحٍ، فجلس على مقعده المعهود، يفتل شاربه ويبلله بزيتٍ عطريّ، وذاكرته تعجّ بصور الزمن الغابر. تذكر شبابه... كان قوي البنية، يمشي مختالًا في الأزقة، يهز عصاه الفضية، تتمنّاه بنات الحي، لكنّه تزوج من فلاحة ممتلئة الجسد، أحبّته وهنأت برضاه، ومضت السنون، وهو يشيخ و هى تشيخ معه ، لكن قلبه ظلّ يضجّ بالشباب. أحسّ بجفاف، بجوعٍ عاطفي، بجنونٍ يسري في دمه كنسمة عابثة... ثم أشرق في قلبه أملٌ جديد، خافتٌ لكنه ملتهب. ظلّ وجدان يحدق في المارة من الفتيات الناضرات، تغزوه الخيالات المبهجة، تخطر له حوريات الجنة فرحات ضاحكات، يعزفن حوله الموسيقى الهادئة ، ويرقصن برشقة الغزلان في بهجة، بينما هو في المقهى شارِد، كأنّه تائه بين عالمين. وإذ بأحد العمال يمازحه: "كيف حالك يا عم وجدان ؟" ردّ بصوتٍ متهدّج خافت : "الحمد لله، لكن قلبي ضيق... كأنّه اختنق." فتدخّل كاتب محامٍ كان يجلس قريبًا: "يا عم وجدان ، إنك تبحث عن السعادة المفقودة." كانت الجملة مثل طلسمٍ انفكّ، فاعتدل الرجل وقال مبتسمًا: "والله، من يوم ما حلمت بالمرأة دي وأنا مش على بعضي!" انفجر الجالسون بالضحك، وتحوّلقوا حوله، كلٌ يُطلق ظنونه. أحدهم قال: الشيخ وقع في الحب!" وآخر سخر: "هايتجوز بنت صغيرة!" فقال وجدان بنبرة جادة: "لا أكره زوجتي، لكنها هرمت... أنا رجل، والفواكه كثيرة، عندي بطيخة، لكن أحب أدوّق تفاحة!" وما لبث أن حلمه بدأ يتجسّد؛ جاءت امرأة تدعى "هنومة الخطّابة"، وعرضت عليه فتاة للزواج، فأشرق وجهه، ومنحها جنيها، وقال: "بس تكون تفاحة!" ومرت الأيام، وتزوج وجدان من فتاة شابة فاتنة، وافقت عليه لفقرها، وكان كالعاشق الولهان، يتيه بجوارها في الطرقات، يلبس أجمل ما عنده، ويشعر بأن الدنيا ترقص له. أما زوجته الأولى، فقد رفضت العودة، وظل هو في عالمه الجديد لا يكترث. لكن الشهور تمضي، ومعها تتبدد النقود، وتغلق القهوة، ويذوي الفرح. وفي أحد الليالي، طلبت الزوجة الشابة الذهاب للسينما، فصرخ: "على قد لحافك مد رجليك!" لكنها أصرّت، واحتدّت، فصاح بها: "أنفقت عليكِ ثروتي! كلها!" وبعد عراك مرير، طلقها وهو يئن من الخيبة والانكسار. وفي الصباح، وجد نفسه وحيدًا، والشمس تسللت إلى الغرفة لا تحمل دفئًا، بل تسلط الضوء على فقره، شيخوخته، وحدته. مشى في الغرفة كالطيف، ثم سقط على الأريكة كالجبل المنهار، وأجهش بالبكاء… بكاءً حارقًا، نادمًا، ذائبًا كمن أدرك أن الحلم الذي ظنّه خلاصًا… كان مجرد سراب.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال