أبو نواس وجنان... حبٌّ يضجُّ بالشعر والحنين

أبو نواس وجنان... حبٌّ يضجُّ بالشعر والحنين
لم يكن أبو نواس عاشقًا عاديًّا، بل كان حبُّه مجبولًا بالشعر، متدفقًا بالجنون، صاخبًا كخمرةٍ في كأس شاعر لا يعرف الاعتدال. وقد خفق قلبه لأول مرة حين وقعت عيناه على جنان، تلك الفتاة الفاتنة الذكية، التي تجمع بين حسن الصورة وبهاء الروح، تحفظ الأشعار وتروي الأخبار، وتمزج الأدب بالظرف، والعقل بالجمال. رآها عند مولاها الوهاب، فاستحلاها، وانغرست صورتها في قلبه كجذوة لا تنطفئ. ومنذ تلك اللحظة صار لا يذكر إلا اسمها، ولا يهذي إلا بحبها، حتى غدا حديث مجلسه وشعره. وذات يوم، قيل له: "إن جنان عازمة على الحج." فقال، وقد انتفض شوقه: "إني على إثرها أحج!" ولم يكن ينوي الحج أصلًا، لكن خروجها كان كفيلًا بأن يشعل عزيمته، وأن يبدّل خطاه، فسبقها في السفر، علّه يلتقيها، علّ النظرات تصادف النظرات، والقلوب تسلم على القلوب. لكنها، كما هي، تحجّب عنه، تتوارى، وتمنع الوصول، فراح يتألم شعرًا ويبوح: ألم تر أنني أفنيت عمري بمطلبها، ومطلبها عسيرُ فلما لم أجد سببًا إليها يقربني، وأعيتني الأمورُ حججت وقلت: قد حجّت جنان فيجمعني وإياها المسيرُ ولمّا لم ينله لقاؤها، كتب إليها رسالةً لا تخلو من توقيرٍ ظاهر، وعشقٍ باطن، صاغها في شكل تضرع وتلبية لله، لكنها مرصّعة بالحب والرجاء: إلهنا ما أعدلك، مليك كل من ملك لبيك، قد لبيت لك، لبيك إن الحمد لك... لولاك يا رب هلك، كل نبي وملك... فلما بلغها الكتاب، سكتت. لم تكتب، لم ترد. ولكنها ذات ليلة حضرت عرسًا كان يقام بجوار دار أبي نواس، وما إن رآها، حتى خُطف نظره بها، وظنها العروس، فقال على البديهة: شهدت جلوة العروس جنان، فاستمالت بحسنها النظّارة. حسبوها العروس حين رأوها، فإليها دون العروس الإشارة. لكن الحب، وإن صدق، لا يسلم من العتاب. وذات مرة، غضبت جنان من كلمة عتاب نطق بها، فأرسل لها معتذرًا، فكان ردّها قاسيًا عبر الرسول: «لا برح الهجرانُ ربعك، ولا بلغتَ أملك ممن أحببتك». وحين سأل أبو نواس رسولَه عن ردها، لم يجرؤ على البوح، فقرأ الحزن في ملامحه، وأنشد: فديتك، فيما عتبك من كلامٍ نطقتَ به على وجهٍ جميلِ وقولك للرسول: عليك غيري فليس إلى التواصل من سبيلِ فقد جاء الرسول له انكسارٌ وحالٌ ما عليه من قبولِ ولو ردت جنانٌ ردَّ خيرٍ تبين ذاك في وجه الرسولِ ظلّت جنان على صدّها وجفائها، وأبو نواس على صدقه وتودده، إلى أن رقّت مشاعرها أخيرًا، حين أنشد لها أبياتًا تفيض عذوبةً وصدقًا، مسح بها ما ترسّب من الشك والحنق، وقال: جنان، إن جدتِ يا منايَ بما آمل، لم تقطر السماءُ دما وإن تماديتِ، ولا تماديتُ، في منعك، أصبح في قفرةٍ رمما علقتُ من لو أتى على أنفس الماضين والغابرين ما ندما لو نظرتْ عينه إلى حجرٍ وشدّ فيه فتورهُ سقما وهكذا، ظل حب أبي نواس لجنان، قصيدةً حيّةً في ديوان الهوى، تلتهب بالشوق، وتنقش في الذاكرة مأساة شاعرٍ غارقٍ في المعنى، عاشقٍ لا يُشفى، لا باللقاء، ولا بالهجر، ولا حتى بالشعر.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال