أزمة القيم
دراسة تحليلية في التغير الاجتماعي والوعي الأخلاقي
(1) الازدواج القيمي: العيش بين عالمين
لا أدّعي أن ثمة أزمة قائمة بالفعل بين "جديد القيم" و"قديمها"، بل ما أريده هو أن نُحدِث نحن هذه الأزمة، أن نُقيمها ونتجاوزها، كي نُعيد تشكيل القيم خلقًا جديدًا. فليس أهون على الإنسان من أن يعيش في عالمين متوازيين: عالم خارجي عام، يضطرب فيه مع الناس ضمن النشاط العملي، وتحكمه مجموعة من القوانين واللوائح، وعالم داخلي خاص، يعيشه مع أهله وأصدقائه، وتضبطه مجموعة من المعايير التي قد تتوافق أو لا تتوافق مع معايير العالم الخارجي.
في العالم الخاص، يملك الإنسان حرية أن يمدح أو يذم بصدق، حسب قناعاته. أما في العالم العام، فهو مضطر غالبًا لأن يُردد ما يريده الناس منه من مديح أو ذم، ولو دون اقتناع. علاقاته في الدائرة الخاصة تتسم بالندية والاحترام الإنساني، حيث يقف الجميع في صف واحد، أقدامهم على الأرض ورؤوسهم معتدلة القامة. أما في العالم العام، فيقف الأفراد في عمود رأسي، الواحد فوق كتف الآخر، محكومين بمنطق السلطة والمصلحة.
ويُغلب أن تكون القوانين في العالم الخارجي تشريعات رسمية ذات عقوبات رادعة، بينما القوانين في العالم الداخلي تقوم على المواضعات الخُلقية والعرف والتقاليد، ولا عقاب فيها إلا تأنيب الضمير واستهجان الآخرين. وهذا الازدواج في القيم كثيرًا ما يُعد حالة "طبيعية" لا تُثير دهشة، إلا عند المشتغلين بفلسفة الأخلاق، رغم أنه قد يصل إلى أن يُعامِل الإنسان أبناء وطنه بطريقة، وأبناء البلاد الأخرى بطريقة مناقضة تمامًا.
هكذا، فإن كشف الغطاء عن هذا التناقض الداخلي يُمكن أن يُحدث "الأزمة" التي أشرتُ إليها، وهي أزمة أخلاقية ثقافية تُمهد لتجديد منظومة القيم.
(2) مرحلة التحول وأزمة القيم
أشد ما يُحدث الازدواج القيمي بين أبناء الأمة الواحدة هو المرور بمرحلة انتقالية من مراحل النمو والتطور. فالعلاقات الاقتصادية هي ما تُشكِّل في النهاية أسس التعامل الإنساني، وإذا تغيرت هذه العلاقات، فإن تغير القيم والمعايير يصبح أمرًا حتميًا، وإن جاء متأخرًا. ويُلاحظ دائمًا أن التغير الاقتصادي أسرع من التغير الخُلقي، وقد يستغرق التغير القيمي عقودًا حتى يلحق بركب التغيير المادي.
انتقلت الإنسانية من اقتصاد الرعي إلى الزراعة، ومن الزراعة إلى الصناعة. ولكل طور من هذه الأطوار أخلاقياته الملائمة، غير أن بقايا القيم القديمة تظل باقية ومتسللة إلى الطور الجديد. ففي مصر، مثلًا، لم تزل أخلاق الزراعة والبداوة سائدة، رغم أننا نعيش الآن مرحلة التحول الصناعي.
وقد استقرأ "والت روستو" في كتابه مراحل النمو الاقتصادي خمس مراحل لتطور المجتمعات: التقليدية، التحول، الانطلاق، النضج، ثم الرفاهية. ونحن في العالم العربي نقف اليوم على مشارف مرحلة الانطلاق، حيث تتغير بنية المجتمع كليًا لتُناسب حياة جديدة قائمة على العلم والصناعة والحداثة. تتغير مفاهيم العمل، وتتبدل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الرجل والمرأة، وبين الريف والمدينة.
ولكننا نلاحظ في هذه المرحلة ازدواجًا صارخًا في القيم:
• في المرحلة التقليدية، كان التواكل والرضا بالواقع من مظاهر التدين، أما في المرحلة الجديدة فالسعي والعمل وتغيير الواقع مبدأ أساسي.
• في الأولى، كان مقياس القيمة هو النسب والمكانة، أما في الثانية فالكفاءة والإنتاج.
• في الأولى، تُغلب المشاعر والوجدان، وفي الثانية يُحتكم إلى العقل والعلم.
• في الأولى، يُشوَّه الماضي بالأساطير، وفي الثانية يُنقّى ليستفاد منه.
هذا الازدواج يُفسر ما نعيشه اليوم من تناقض: نعمل بأجسادنا وفقًا لمقتضيات المرحلة الجديدة، لكننا نفكر ونشعر بمعايير المرحلة القديمة، كعازف يُغني بلحن ويعزف بلحن آخر.
(3) تجسيد الأزمة في تجربة واقعية
لكي لا يظل الحديث في مستوى التجريد، دعنا نستعرض تجربة واقعية تُجسد هذا التناقض. تلقيتُ خطابًا من جهة حكومية يطلب حضوري في التاسعة صباحًا، وذهبت في الموعد، فوجدت المكان خاليًا من الموظفين. وبعد جهد، قِيل لي إنهم لا يأتون قبل الحادية عشرة، رغم أن الخطابات الرسمية تقول غير ذلك!
هذه القصة العابرة تكشف عن قيمتين من المرحلة التقليدية:
• قيمة الزمن: في المجتمعات الزراعية، لا يُشكل الفرق بين التاسعة والحادية عشر فارقًا حقيقيًا، لأن الزرع لا ينتظر. لكن في مجتمع صناعي، حيث الآلة تحكم وتُنتج كل دقيقة، يصبح الوقت عنصرًا حاسمًا.
• قيمة التفاوت الطبقي: الموظفون يتصرفون كأنهم أعلى من المراجعين، كأن لكل إنسان قيمة اجتماعية تختلف باختلاف اسمه أو مكانته، لا بكونه مواطنًا فحسب.
هاتان القيمتان تُظهران بوضوح أننا نعيش في مرحلة انطلاق من حيث العمل، لكننا نُفكر ونتصرف وفق قيم المرحلة الزراعية التي مضت.
(4) من يبلور القيم الجديدة؟
ورغم أهمية أزمة القيم، إلا أن رجال الأدب والفكر – فيما أرى – ليسوا بعد على اتفاق واضح بشأن ماهية القيم الجديدة التي ينبغي بلورتها. فمنهم من يرى التنوير في العودة إلى التراث، ومنهم من يراه في محاكاة الغرب، ومنهم من يجمع بين الشرق والغرب. وكلٌ منهم يكتب وفق تصوره الخاص: في القصة، في المسرح، في الشعر، أو في النقد.
والنتيجة أن الخطاب الأدبي والفكري ما زال في حالة تشتت، يعكس ازدواج القيم لا يسعى لحسمه. فعلى سبيل المثال، لا يزال بعض الأدباء يتغنى ببراءة الريف مقابل "فساد" المدينة، رغم أن الحداثة اليوم قد مزجت بين الريف والمدينة، وصار التعليم والإعلام والمواصلات متاحة للجميع.
من هنا، فإن واجبنا ككتّاب ومثقفين أن نُثير أزمة أخلاقية في ضمير المجتمع، تُحدث صدمة داخلية تُجبر الناس على مراجعة أنفسهم، تمامًا كما راجعوا أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. ولا يمكن لتلك "الثورة القيمية" أن تتحقق إلا من خلال احتكاك الآراء وتبلورها في صيغ واضحة، بحيث تُترجم إلى أعمال أدبية وفنية تُجسد روح العصر، وتدفع بالفرد إلى تجاوز الازدواج والانقسام الداخلي.
خاتمة
نحن إذن نعيش على مفترق طرق قيمي، على مشارف "مرحلة الانطلاق"، حيث ينبغي أن نتحرر من ثقل الموروث حين يعوقنا، دون أن نقطع صلتنا بالجذور. الأزمة ليست في وجود القيم القديمة، بل في استمرارها غير الواعي وسط عالم جديد لا يناسبها. والتحدي الأكبر أن نخلق بأنفسنا – في الفكر والسلوك – قيمًا جديدة تُلائم عصرًا جديدًا، دون أن نكون ضحية للتشتت أو الحنين السلبي للماضي.