قتيلة الرقص
أدار حسين طوسون قرص الهاتف للمرة الثالثة بأصابع متوترة، وجاءه الصوت المألوف من عامل الهاتف في الفندق، بنفس الرد الذي سمعه في المرتين السابقتين:
"مسز طوسون لا ترد، يا سيدي."
لكن حسين لم يتمالك نفسه هذه المرة، فصاح بنفاد صبر:
"أعطني مدير الفندق، من فضلك!"
في كلمات موجزة، أبلغ طوسون المدير بقلقه الشديد من عدم رد زوجته " نوال " على الهاتف، ورجاه أن يتحرى الأمر بنفسه.
بركة من الدماء
توجه مدير الفندق إلى الغرفة رقم " 1003" في الدور الثالث. طرق الباب مرة، مرتين، ثلاثًا... ولا مجيب. اضطر إلى استخدام المفتاح الإضافي وفتح الباب. وما إن خطا إلى الداخل حتى اندفعت من صدره شهقة فزع، واستند إلى حافة الباب محاولًا استعادة أنفاسه.
كانت "نوال " راكعة على بطانية تتوسط أرض الغرفة، وجبهتها ملامسة للأرض، وقد تجردت من معظم ملابسها. غاص جسدها في بحيرة من الدماء الغزيرة التي غمرت البطانية، وامتدت لتصبغ الحائط بلون قانٍ كالعقيق.
لم يحتج المدير إلى كثير من الوقت ليدرك أن القتل نجم عن خنق بالسلك الكهربائي الملفوف بعنف حول عنقها، وأن الطعنة التي قطعت رقبتها جاءت من زجاجة صودا مكسورة، مما أدى إلى نزيف دموي مهول. هرع المدير إلى الهاتف يبلغ الشرطة.
مشهد الجريمة
وصل مفتش شرطة قصر النيل برفقة مساعده بعد دقائق. لاحظ المفتش بعينه الخبيرة أن السلك الكهربائي قد لف بإحكام على العنق، وأن الأداة المستخدمة في الذبح كانت عنق زجاجة مكسورة. وُجدت ثلاث زجاجات ويسكي صغيرة فارغة متناثرة في أنحاء الغرفة، وكيس نقود مفتوح وفارغ فوق السرير. لاحقًا علمت الشرطة أن الكيس كان يحتوي على 76 دولارًا، حين ودّعت نوال زوجها في المطار قبل الحادث.
مجنونة الرقص
لم يستطع الزوج ولا أصدقاؤه أن يمدوا الشرطة بأي خيط قد يبدد غموض الجريمة. عُرف أن الزوج، بحكم عمله، كثير التنقل بين المحافظات، وأن زوجته كانت تستأجر غرفة في الفندق خلال غيابه لتسترخي بعيدًا عن ضغوط المنزل، وكان يشجعها على ذلك، فقد كانت امرأة عصبية سريعة الانفعال.
على مدى عشر سنوات من الزواج، أدارت إيرين المنزل بكل إخلاص، لكنها كانت تملك شغفًا واحدًا لم يعرف الهدوء: الرقص الشرقي . ورغم حاجتها للمال، لم يكن دافعها للعمل مادّيًا فقط، بل اختارت أن تعمل معلمة في مدرسة رقص قريبة من بيتها في المعادي ، تُدرّس الرقصة التي تهواها لطلابها صباحًا ومساءً. لم تبدأ هذه الوظيفة إلا قبل شهر واحد من مقتلها.
بدأت الشكوك تحوم حول احتمال ارتباط عملها الجديد بجريمة القتل، خاصة بعد العثور على ورقة مكتوبة بالعامية. ربما القاتل شاب من محافظة بورسعيد تشارك معها حب الرقص البلدي ، وربما دبت بينهما خلافات أدّت إلى المأساة.
التحقيق يتسع
أكد موظفو الفندق أن نوال استأجرت الغرفة يوم الثلاثاء، ولم يُشاهد أحد يرافقها. كانت قليلة الطعام، ولم يُلحظ عليها شيء غريب. وجاء تقرير الطبيب الشرعي ليحدد وقت الوفاة ما بين مساء الجمعة وظهر السبت. الدم كله نزف من جرح ذبحي غائر، وظهرت إصابات إضافية في الرأس.
ما حيّر رجال الشرطة أنه لم يكن هناك أثر لأي مقاومة من القتيلة، مما رجّح أن القاتل لم يكن غريبًا عنها، بل من المُرجّح أنهما قضيا وقتًا لطيفًا معًا قبل القتل، بدليل تجردها من ملابسها واستهلاك ثلاث من زجاجات ويسكي.
الرقص القاتل
بدأ رجال الشرطة التحري في مدرسة الرقص، بحثًا عن علاقات محتملة بين نوال وبعض طلابها من الفتيان و الفتيات . سألوا عن الطلاب من محافظات أخرى ، فكان هناك ثلاثة: "همام "، و" مرقص"، و" مهند ".
كان "همام" قد فُصل من المدرسة لسوء سلوكه ، و اخلاقه المنحرفة نحو الطالبات، وتبيّن لاحقًا أنه كان خارج المدينة وقت الجريمة. أما "مرقص"، فقد اعتاد مرافقة نوال إلى المراقص بسيارته التويوتا ، وتمكّن أيضًا من إثبات غيابه عن مسرح الجريمة.
بقي الثالث: " مهند "، المعروف بـ" النمر"، وكان مفقودًا. ترك الفندق صباح السبت، واختفى.
توجهت الشرطة إلى عمله في "وزارة الصحة"، حيث تبيّن أن شابًا اسمه " مراد " التحق هناك حديثًا. بالتحقيق، اعترف بأنه هو نفسه " مهند"، وأنه غيّر اسمه للهروب من مطلقته التي تطارده. تبيّن أن قصته صحيحة، ولم يُعرف له أي علاقة بالقتيلة، فأُطلق سراحه.
من هو مهند الحقيقي؟
أثناء التحقيق، ظهرت "ماري "، صديقة مقربة لنوال ، و التي لا تفارقها إلا للنوم ، و أو المواعيد الغرامية ، أخبرت الشرطة بسرّ خطير:
" كانت نوال تحب فتى اسمه مهند. لم تكن تستطيع العيش معه لأنها متزوجة، ولم تكن قادرة على الابتعاد عنه. كانت تستغل سفر زوجها لتقضي معه أوقاتًا رومانسية. لكنها قررت هذه المرة أن تنهي علاقتها به نهائيًا، وكانت خائفة من ردة فعله. ، فمهند كان عصبي المزاج يثور لأتفه الأسباب ، و لا تهدأ ثائرته إلا بعد ان يشرب كثير من الويسكي .
وصفت ماري الفتى بأنه متوسط الطول، أسمر البشرة، مجعّد الشعر. لم تعرف اسمه الكامل ولا عنوانه، لكنها تذكّرت أنه كان تلميذًا سابقًا في مدرسة الرقص.
رجع رجال الشرطة إلى سجلات المدرسة، ووجدوا اسمه: "مهند "،
الطريق إلى القاتل
كانت البيانات المسجلة عن " مهند " قديمة، لكن الشرطة تتبعته حتى توصلت إلى مكان عمله، وعرفت أنه تغيّب عن العمل منذ الخميس، وأنه يقيم في بنسيون بجنوب المدينة. أكدت صاحبة البنسيون تلقيها مكالمة منه يبلّغها فيها أنه سيغيب لفترة و لم يحدد تلك الفترة التي سيغيبها .
وبمقارنة تواريخ غيابه مع تواريخ سفر زوج نوال، وجدت الشرطة تطابقًا مريبًا. استصدروا أمرًا بالقبض عليه، ووزعوا منشورًا بصورته على المراكز الأمنية ، في كل الأقسام و المحافظات .
الاعتراف
فوجئ الجميع حين ظهر مهند بنفسه مساء الأربعاء في قسم الشرطة، وقال بهدوء:
" علمت أنكم تبحثون عني. أريد أن أؤكد أنني لم أقتل نوال ."
اعترف بعلاقته العاطفية و الجنسية بها، وأنه كان يتردد على غرفتها دائما ، لكنه أنكر ارتكابه الجريمة، وقال إنهما تشاجرا مساء الجمعة في المرقص، فغادرت مع رجلين غريبين لا يعرفهما .
تحققت الشرطة من روايته، فوجدتها صحيحة. وبشهادة الرجلين، تم تضييق دائرة الشك من جديد.
عندئذ، نظر إليه المفتش قائلاً بثقة:
" أنت القاتل يا مهند... لا جدوى من الإنكار. تسللت إلى الفندق وقتلتها بعد شجار عنيف بينكما ، حين أخبرتك إنها تريد الانفصال عنك ."
أشعل مهند سيجارة، وأطرق برأسه لحظة، ثم قال بصوت خافت:
"حسنًا... نعم. لقد قتلتها."
العقاب
روى مهند تفاصيل الليلة المشؤومة:
تسلل إلى غرفتها بعد منتصف الليل، استقبلته بحفاوة رغم شجارهما. شربا، تعانقا، لكنها كانت مخمورة بشدة. حاول إيقافها عن الشرب، فثارت عليه، شتمته، سخرت منه، وأقسمت أنها ستتركه.
حين حاولت طعنه بريشة حبر، تشاجرا بعنف. أصابها السلك الكهربائي، وانكسرت زجاجة صودا، لم يشعر إلا ويداه تلتف حول عنقها، والسلك يُطبق على رقبتها، والزجاجة تقطعها... سقطت أمامه جثة هامدة.
كتب رسالة قصيرة بالعامية ، سرق النقود، وهرب.
قُدّم إلى المحكمة، وطالبت النيابة بإعدامه، لكن القضاة الثلاث ، رأفوا بحالة الغضب الشديد التي سيطرت عليه، فحكموا عليه بالسجن المؤبد .
كان عقاب السجن المؤبد ، أقصى عقاب ، بأقصى من الاعدام ، ففي محبسه الانفرادي سوف يتذكر كل سهراته معه ، بل و سرف يتذكر حين ترقص أمامه ، و هى بقميص النوم فقط .