في قبضة الوجدان

في قبضة الوجدان
لعلّك قد التقطت ذات يوم عبر الأثير، صوتًا ناعمًا عميقًا، صادرًا عن قصبة من الغاب، كأنّه يحكي في همهمته عن تاريخ طويل عاشه شعبٌ عشق الوجدان، واعتنق مسالك الروح، ثم ما لبث، عبر القرون، أن فلسف الحياة عبر هذه الزوايا الروحية، وخضع لقوى الوجدان الجارفة. إنّ أنات الناي، الصادرة من أعماق الصمت، تروي في صدقٍ طبيعة الموسيقى في الشرق، ذلك الشرق الذي استجلى غوامض النفس، وكشف عن الزاد الثقافي والحسي الذي لا يُستمد إلا من الروح. لقد مهّدت هذه النظرات المتأملة، وما حملته الرسالات السماوية القديمة، إلى نوع من الحياة يشعّ فيها الاطمئنان، مهما تداخل فيها الخير والشر، فلم تكن موسيقاه إلا مرآة للسكينة، ولم تسعَ لفرض سلطانها على ملكات العقل كما فعلت الموسيقى الغربية، بل ظلت بسيطة... نديّة... روحانية. ورغم اشتداد صراع الثقافات، وتبادل التأثير بين الشرق والغرب، لم تقوَ موسيقى الشرق على الانعزال عن هذا الخضم، لكنها ظلت تحتفظ، في أعماقها، بذلك الحنين الأصيل، وتلك اللمسة الشرقية الخالصة. ومع هذا، يبقى السؤال معلّقًا: هل تُعَدّ الموسيقى المصرية امتدادًا للروح الشرقية، تعبّر عن البيئة والنفس والوجدان؟ أم أنها تنحو نحو الأساليب الغربية، وسيلةً وتطلّعًا؟ ربما يظل هذا السؤال معلّقًا لأجيال، فما يزال الشرقي، رغم طوفان الحداثة، متمسكًا بموسيقاه القديمة، لأنها تمثّله، وتتكلم بلغته، وتكمل صورته الذاتية، وتمنحه هوية روحية لا تستهويه الآلة ولا تصنعها المعادلات. ليس العجيب أن يكون التعقيد صنعة وإعجازًا، لكن الأعجب أن تكون البساطة الخالصة هي نفسها ضربًا من الإعجاز. وهذا ما تجلّى في قلب " نير العاطي "، الذي سجّل للناس صورة من الجمال الخافت، الناطق في رقّته وبساطته، بما ينطق به كلُّ عملٍ عبقري عظيم. لقد وصلت إلينا أنغامه من قلب "الناي"، تحمل فيضًا من المعاني الروحية السامية. هذه القصبة البسيطة، التي عرفها النسيم قبل أن يعرفها الإنسان، أنصتت لها الطبيعة حين داعبها الهواء، فوق الربى وبين الأشجار، فاستجابت كما يستجيب العاشق لرسائل حبيبته، وراحت ألحانها تشارك الراعي وحدته، وتؤنس الزمان في وديان الريف وربواته. ومذ عرفها الإنسان، حين ألحّت عليه عواطفه، واشتد به الشوق، اقتطع من المرج عودًا، وثقبه، ونفخ فيه... وكأنه ينفث من قلبه وجعًا وحنينًا. مرت القرون، وامّحت الأعوام، والقصبة ما زالت باقية على بساطتها، تتحدى تعقيد الآلة، وتنتصر على هندسة الصناعة، ظلت رمزًا يشدّ أفئدة الفنانين الشرقيين، ولم يكن " منير العاطي " سوى أحد هؤلاء الذين استجابت قلوبهم لهذا النداء القديم. فقد أصابه داء أفقده البصر في مطلع حياته، وما إن بدأ يتعرف على الحياة حتى وجد نفسه محاطًا بمسميات لا تراها عيناه، لكنها تهز وجدانه: الشفق والغسق، الزهور والطيور، الطبيعة والطلال... كلّها أسماء أجهدت روحه، فراح يهمس بها، يختزنها في وجدانه، يستأنس بها في عالمه الموحش. هكذا أسمعنا موسيقى تحمل سمة الألم، ونغمة الضجر، وروحًا هائمة، تنشد في ضوء الفجر ومساء الغروب بارقة نور، وحلمًا حرًا يحلق في فضاء لا تحدّه القيود. ولا عجب أن كان هذا الفتى حبيسَ الصمت، ثائرًا على المقاييس السائدة، خارجًا على السائد في موسيقاه، ناثرًا آنات الحيرة من نايه، كأنها دفقات قلب امتلأ بالألم، وانطوى على شتى صنوف الشجن. منذ نعومة أظفاره، كان يتغنّى بالقرآن الكريم، فحفظه وأتقن تجويده قبل أن يبلغ العاشرة. وعلى الرغم من امتلائه بالزاد الديني، ظل قلبه يبحث عن المجهول، ذلك الجمال الذي يتجلّى في الأصوات: في خرير الماء، في تغريد الطير، في حفيف الأشجار. كانت تلك الأصوات، رغم افتقارها إلى الصورة، تحمل له كل أسرار الجمال. ولم يكن غريبًا أن ينجذب إلى هذا النداء. تعلّم البيانو، ثم عاد إلى العود، فاستنطقه الجمال، رغم التباعد بين الآلتين. ثم عكف على الناي، فحوّله إلى غابة أرواح هائمة، تبعث من بين أنامله دموعًا من النغم، تضيء كالبروق، وتنقش صورًا في الهواء. ولم يتلقَّ منير العاطي العلم على أيدي الأساتذة إلا قليلاً، لكنه عكف على كتب الموسيقى، حتى أتقنها، وصار مرجعًا في أوزانها وأنغامها، ومن ثم بدأ رحلته نحو التكوين، يلحن الموشحات والقصائد، ويغوص في القديم ليصوغ منه جديدًا لا يخبو. لقد عرفناه روحًا تائهة، تتوق دومًا إلى أفق جديد، وكلما اقترب من سر الحياة، تلاشت الصورة في ضباب السراب. وظلت ألحانه تحمل هذا السؤال الأبدي: من أنا؟ وإلى أين؟ وما الذي أبحث عنه؟ وفي أمسيات طويلة، كان يُرى منزوِيًا بعُوده أو نايه، يُداعب اللحن الشجي، فإذا ما استوى الليل، أحس بوحشة تكاد تفتك بروحه. يسمع أصواتًا من بعيد، تتجاوب بين الطيور، تهمس مع أنفاس الفجر. كأنّ الدنيا له وحده... يبوح لها، يستنطقها، يسامرها حين يشاء. كان كزورقٍ سابحٍ بلا شراع، يترك مجدافه للريح، لا يريد من الحياة إلا ما يُنفقه من عمره في صمت جميل، كما صوّره الشاعر أحمد رامي. لكن منير العاطي كان فوق هذا كله: قلبًا يحبّ ويشتاق، وكانت حاجته إلى الحبّ مضاعفة، تعويضًا عن ظلم الحياة. وكم مرّت بأذنه أصوات عابرة، لم تعلق بروحه، إلا ذاك الصوت... ذاك الصوت الشاعري الذي اخترق قلبه، فصار زفرة ناي محترق، تتردد في وجدانه، وتنبض في موسيقاه. ظل ذلك الصوت يسكنه، همسةً في كل لحن، ونغمةً في كل وتر، لكنه كتمه... لم يستطع أن يبوح به، لا خشية العيب، بل خشية الابتذال. كيف لضرير مثله أن يحب كالباقين؟ كيف يطلب من الناس أن يفهموا حبه، أو يُنصتوا لحنينه؟ فصمت. وصار الصمت أعذب أنشودة. وإن تزوّج، وإن أنجب، فقد ظلّ ذلك الصوت يلاحقه كظلٍّ سرمدي، لا يفارقه، ولا يزول. وحين بلغ ربيع الأربعين، سئم الناس، وسئم رياء المجتمع، ولجأ إلى الملذّات، يكرعها نسيانًا أو تمردًا، حتى انهارت قواه فجأة. مات وهو يهمس بالألحان، كأنه ينسلّ من الحياة إلى الخلود. هكذا تحرر من قيده الطويل... هكذا صار الحبيس طليقًا. رحل منير العاطي ، حلمًا ضائعًا في زحمة الجحود، قلّ من قدّره في حياته، رغم اعتراف النقّاد بعبقريته، ولم تُجمع مؤلفاته، كما تُجمع كنوز الأساطير. ومثل فاجنر، الموسيقار الذي مات منسيًّا، ثم بُعثت ألحانه بعد موته، نأمل أن تجد ألحان نير العاطي طريقها إلى النور، فتشكّل أساسًا شامخًا تُطل منه الموسيقى المصرية على العالم، بسداها الشرقي ولحمتها البيئية الأصيلة. لكن... آهٍ، كم هو مؤلم أن تنطفئ شمعة كهذه، دون أن ترى لها وهجًا في دنيا الناس!

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال