اجلس فورًا واكتب شكواك!

اجلس فورًا واكتب شكواك!
كان الاستعمار، في أيام الاحتلال السافر أو في ليالي الاحتلال المقنّع (الذي كان يختبئ وراء "برافانات" مزركشة وطراطير متقنة الصنع)، يتصرّف وكأنه نحات ماهر في فن التحكم بالشعوب، لكنه نحات لا يستخدم إلا يدين: اليد اليمنى اسمها الجيش، واليد اليسرى تُدعى البوليس! الاستعمار كان يضرب الشعب باليد اليمنى حينًا، وباليسرى حينًا آخر، وغالبًا ما كان يضرب كل يد بالأخرى إذا ما فكّرتا في العصيان أو التمرد. ويا له من ذكاء سياسي… لا بل بهلواني! فإذا هَمّت اليد اليمنى – أي الجيش – أن تتمرّد على سوء المعاملة، استعان الاستعمار بالبوليس ليلقّنها درسًا في "الولاء". وإذا رفعت اليد اليسرى – أي الشرطة – رأسها وقالت: "كفاية مهانة!"، جاء الجيش بأحذيته الثقيلة ليذكّرها من هو رب العمل. وهكذا ظل الاستعمار يستخدم يديه لضرب الشعب، ولضرب يده بنفسه، وكل ذلك بروح رياضية عالية! لكن في لحظة لم يكن يتوقعها أحد (ولا حتى العرافة أم بشير!)… وفي 23 يوليو 1952 تحديدًا، نهض الشعب، وقال للجيش: "شد حيلك يا بطل"، وللبوليس: "تعال معانا يا عم!" وفجأة، يد اليمنى، واليد اليسرى، وكل المفاصل والعظام، اتحدت في قبضة واحدة، وضربت الاستعمار ضربة معلّمة، أطاحت به في البحر… خلف الطاغية فاروق وأحلامه الاستعمارية المبللة. ومن يومها، لم يعد هناك يد استعمارية يمين ولا يسار. اليد اليمنى عادت تخدم الشعب، واليسرى عادت تمسح دموعه، وكلتاهما الآن في خدمته، تضرب باسمه، وتصفّق له إن أحسن، وتُحذر من يفكر في أذيته: "إيّاك ثم إيّاك!". أما رجل البوليس؟ فقد خلع بذلة الطاغية الصغير، وتخلّى عن دور الموظف الأنيق في خدمة الاستعمار، ذاك الذي كان يحمل في جيبه دفتر مخالفات، وفي قلبه رشوة، وفي عينيه قسوة، وفي أنفه تعفّن أخلاقي مزمن. الثورة مسحت هذه الصورة من أذهاننا، ثم مزّقتها، ثم حرقتها، ثم رشّت عليها "سبيرتو"، وأطلقت فوقها ألعابًا نارية احتفالية. وبدلاً منها، رسمت لنا صورة جديدة: شرطي مبتسم، يسهر على راحتك، يحمي مالك وكرامتك، ويقف بالمرصاد لكل من تسوّل له نفسه التعدي على الأخلاق… أو المرور عكس الاتجاه! ومن هنا… وُلدت مجلة البوليس! مجلة شبه أدبية رأس تحريرها سعد الدين وهبه ، كما اختفت كما ظهرت لا مجلة صفراء تروج للرعب، ولا مجلة أمنية تملي عليك التعليمات كما تُملَى على طالب راسب، بل مجلة ناعمة، تريد أن تقول لك بلغة رقيقة: "رجل البوليس صديقك يا مواطن، مش جلادك! تقدر تطبطب عليه وتقول له: عندي مشكلة. وهو – نظريًا على الأقل – هيحضنك ويفتح لك دفتر البلاغات بعيونه قبل قلمه!" نعلم طبعًا أن المهمة ليست سهلة، وأن تغيير الصورة الذهنية للبوليس – بعد سنوات طويلة من الكرابيج والصفعات – ليس بالأمر الهين. فحتى الآن، هناك من يرتعد إذا رأى زيًّا رسميًا، وهناك من يختبئ خلف عمود إن سمع صافرة. لكننا نحاول… نحاول بجد. ونأمل أن ننجح قبل مرور سبع سنوات عجاف أخرى! ونحن لا ندّعي أن الشرطة قد أصبحت "كاملة الأوصاف". لا، فالملائكة ما زالوا في السماء، ونحن هنا على الأرض… حيث الحشيش يُشمّ، والرشاوى تُهمس، والشكاوى تُؤجل. لكننا نعدك – أيها المواطن القلق – بأننا سنسمعك، سننشر شكواك، وسنفتح فيها تحقيقًا… وربما نأخذ لك حقك إن أمكن! فلا تتردد… و لا تخاف اجلس الآن فورًا، خذ ورقة وقلمًا (أو افتح موبايلك)، واكتب لنا كل ما في صدرك. نعدك بأننا لن نرمي رسالتك في سلة المهملات، إلا إذا كانت مكتوبة بخط سيئ جدًا… أو تتضمن سبابًا مباشرًا لرئيس التحرير!

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال