امرأتان في واحد

امرأتان في واحد
كانا زوجين مثاليين، تتغنّى الأوساط الفنية بقصة حبهما النادرة، وكأن الجنة دانت لهما على الأرض، فعاشا عشر سنوات في فردوس من العشق والسكينة. لكن زائرًا غريبًا تسلّل يومًا إلى جنّتهما الوارفة، ولمّا خرج، حمل معه الزوج، وترك لها مفاجأة تقلب حياتها. مفاجأة من العيار الثقيل . أغلقت بهيجة المنصوري سماعة الهاتف وهي تتنفس بعمق، كمن أزاح عن صدره حجرًا ثقيلًا يكاد يخنق أنفاسها ،. جلست على أقرب مقعد، شاحبة الوجه، دامعة العينين. تكررت على شفتيها الرقيقتين ، كأنه هذيان داخلي، كلمات العبارة التي أجهدت نفسها بترديدها على مسامع المتصل: "لا تحاول... أبدًا... أبدًا..." مرّت بأناملها الرقيقة على جبهتها في حركة آلية تعودت عليها ، لتزيح تلك الخصلة المتمردة التي كانت تسقط دائمًا على جبينها. تذكّرته... كان يحبها هكذا، تتدلّى فتعود لترفعها برقة أناملها. خُيّل إليها أنها تسمع صوته الحنون – صوت زكي – يناجيها بكلمات غزله القديم المنبعثة من أعماقه ، فكادت تصرخ باكية، لكنها تماسكت بصلابة . كتمت صرخة الروح في صدرها الحنون ، وظلّت جالسة في مكانها كأنها حيوان جريح يلعق جراحه ويجتر ذكرياته ، تشعر بألم داخلي . تراءى لها وجهها القديم، شابة في الخامسة والعشرين، ممثلة ناشئة لا تملك من الدنيا سوى جسد ممشوق ، كأن نحات صبه في قالب ، وموهبة دفينة تنتظر النور الذي سيضيئ حياتها . دخلت استوديو "زكي كامل"، المؤلف والممثل الشهير، بتردد وحياء ، و تتماسك أنفاسها ، شاعرة بصغرها أمام هالة من سبقنها إليه دون جدوى. تمنّت لو تسلّلت من حيث أتت، لكن التراجع لم يكن ممكنًا. فاجأها بنظرته المشجعة، ونهض من خلف مكتبه الفاخر، واقترب منها قائلًا: "أعتقد أن عندي دورًا لكِ، لكِ أنتِ بالذات... هل تأتين إلى بيتي الأسبوع القادم؟" لم تتردّد. شيء في نظراته، في نبرته، أوحى لها بالصدق والنبل. وافقت. وذهبت في الموعد المحدد، ترتدي ثيابًا بسيطة، لم تهتم كثيرًا بزينة أو تأنق. استقبلها بابتسامته ذاتها، وقدّم لها سيناريو فيلمه الجديد. "الجنة الموعودة " — وكان دور البطولة باسم " هند ". قصة الفيلم كانت بسيطة وعذبة، عن حب ضائع بين "هند" ابنة الطبيب المشهور، و"خالد " ابن التاجر . حب اصطدم بتقاليد قاسية، فانتهى بالفراق. مثّلت بهيجة الفيلم، فأبكت الجماهير، وصعدت في ليلة واحدة إلى نجومية الصف الأول التي كانت تحلم بها . وكان زكي هو من أعطاها الدور... وهو من أحبّها بعنف لبساطنها، ثم تزوّجها. عاشا سنوات من السعادة التي لا توصف، كانت الجنة على الأرض، وقلوب الناس تتغنّى بعشقهما بل كانت الأغاني تحكي قصتهما . و الشعراء في رومانسية حالمة ، يكتبون أشعارهم ، و الكتاب الروائيون يؤلفون القصص الدراسي السعيدة على حياتهم . حتى دخل الموت. رحل زكي فجأة، بعد مرض قصير، ورم في الدماغ ، تاركًا خلفه قلبًا مكسور الجناح ، وامرأة قررت أن ترتدي السواد ما بقي من حياتها. عزفت عن السينما والمسرح ، رفضت كل العروض المغرية ، وأعلنت: "لن أمثل بعد اليوم... لا دور أول، ولا ثاني... لا على الشاشة، ولا على المسرح." عزمت أن تظل بهيجة التي تخص زكي وحده، وهند التي خلقها خياله. فهي لم تكن تمثل الدور، بل كانت تعيشه. كان زكي يناديها باسم "هند " وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. تلك الكلمة أطفأت روحها كما تنطفئ الشمعة في العتمة. لكن الصحافة، والجمهور، وأصدقاءها، لم يكفّوا عن الإلحاح عليها ، أن تعود إلى الأضواء . هي وحدها، كانت تعرف أنها لم تعد تملك شجاعة الوقوف أمام الكاميرا، لأن الرجل الذي خلقها من وهج الفن، لم يعد موجودًا. ثم، في مساء صامت، ظهرت أمامها امرأة. كأنها صورتها في مرآة الزمن. نسخة مطابقة لها بكل شيء إلا فارق السن. نظرت إليها بدهشة عميقة، قبل أن تسألها في ارتباك: – من أنتِ؟ – في شبابي... كان اسمي هند . فتاة كاملة الأنوثة ، رائعة الجمال ، ينظر إلي الكثير من الشباب ، و كانت تجربتي مع زكي تجربة سعيدة قصيرة ، رفضها الأهل لأنها كان في أول طريقه لا يملك إلا فنه ، لا يملك إلا حبه ، لا يملك إلا ذكرياتنا العذبة . صعقتها الكلمة كأنها كهرباء ، أو أفعى لدغتها ، وكأنها ارتطمت بحائط. الزائرة تابعت، بهدوء حزين: – أنا بطلة "الفردوس المفقود". القصة الحقيقية التي اقتبس منها زكي فيلمه الأول... كان زكي هو حبي الوحيد . ذُهلت بهيجة . وعرفت الحقيقة. إذن "هند " كانت حقيقة. وكان زكي يحبها قبل أن يعرف بهيجة . وحين التقاها، أحبّ فيها ملامح "هند "، فأعطاها الدور، ثم أعطاها قلبه . لم تكن بهيجة في حياته سوى بديل... ظلّ... طيف من فردوس ضائع ، من حلم جميل . صرخت في وجهها: – جئتِ تقتلينه من جديد؟ تنتزعين من روحي الخيال الذي أعيش به؟ لكن "هند " قالت بلطف: – جئتُ لأردّ لكِ زكي ... لا لأخطفه. أحببتِه مثلما أحببته. إنه يعيش في كلتينا... فيكِ الجسد، وفيّ الذكرى. أنتِ منحته سعادة لم أستطع أنا أن أمنحها له. أنتِ جعلتِه يضحك. رفقتُه كانت لكِ، وروحه كانت لي. فدعينا نحبّه معًا، لا كعدوتين... بل كامرأتين، جسّدت كلٌّ منهما صورة لامرأة واحدة أحبها زكي ، حتى الرمق الأخير. وبكت بهيجة ... ثم همست في نبرة تأثر: – صدقتِ... مكاني هناك، في محراب الفن. سأعود. لأكون "هند "... لأمنح اسمه المجد الذي حلم به... وسأجعله حيًّا فيّ... وفيكِ. لقد أحببته لأنه صنع مني أسطورة من أساطير الحب .

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال