الأدب اليهودي: تطوراته التاريخية وتنوعاته اللغوية والفكرية
يُعد الأدب اليهودي واحدًا من أعرق وأغزر أشكال الإنتاج الثقافي في التاريخ البشري، إذ يمتد عبر آلاف السنين ويتنقل بين لغات عدة وثقافات متداخلة، من الأدب الديني والتشريعي إلى الإبداع الفلسفي والشعري، ومن الإنتاجات اللاهوتية إلى الأدب الحديث المكتوب باللغات الأوروبية والعبرية المعاصرة. لا يقتصر الأدب اليهودي على النصوص التي تتناول موضوعات يهودية خالصة، بل يشمل أيضًا كل ما أنتجه اليهود من أدب في مختلف العصور واللغات، سواء تعلّق الأمر بالهوية اليهودية أو لم يتصل بها اتصالًا مباشرًا.
أولًا: الأدب اليهودي القديم
يشكّل الكتاب المقدس العبري (التناخ)، وهو ما يُعرف بالعهد القديم لدى المسيحيين، النواة الأساسية للأدب اليهودي القديم، حيث يحتوي على روايات دينية وتاريخية وشعرية ونبوءات وأحكام قانونية وأمثالًا حكيمة، وقد ظل لقرون المرجع الأعلى للثقافة الدينية والفكرية عند اليهود.
ثم جاء الأدب الحاخامي، الذي بدأ في الفترة التلمودية (من القرن الأول الميلادي وحتى القرن السادس)، ويشمل "المشنا" و"الجمارة" التي تكوِّن معًا "التلمود" البابلي والفلسطيني، وهو ما يُعتبر مؤسسة الفكر القانوني اليهودي (الهالاخا) والنقاشات الأخلاقية والدينية المتعددة.
ثانيًا: الأدب اليهودي في العصور الوسطى
الشعر الديني والعلماني
ازدهر الأدب اليهودي في العصور الوسطى، وخصوصًا الشعر، في مراكز ثقافية مثل الأندلس وإيطاليا وفرنسا. في أرض إسرائيل، نشط شعراء طقوسيون في القرنين السابع والثامن، من أبرزهم يس بن يس، وياناي، وإليازار كالير. أما في الأندلس، فقد برز شعراء من طراز سليمان بن جبيرول ويهوذا اللاوي الذين مزجوا بين الشعر الديني والعلماني بتأثيرات واضحة من الشعر العربي الأندلسي.
ورغم محدودية ما وصلنا من كتابات النساء، إلا أن بعضهن استطعن ترك بصمة لافتة، مثل قسمونة بنت إسماعيل، وهي شاعرة أندلسية كتبت بالعربية في القرن الثاني عشر، وكذلك زوجة دوناش بن لبرط، وريتشيل أكيرمان التي كتبت بالألمانية، وريبيكا بات مير تيكتينر باللغة الإيديشية.
التنوع الموضوعي
تضمّن الأدب اليهودي في تلك المرحلة:
• الفلسفة، كما في أعمال ابن ميمون (موسى بن ميمون).
• الأدب الأخلاقي مثل "حِكم الآباء".
• الأدب الروحي والقبّالي.
• شروح التوراة وتعليقات المفسرين.
• كتابات حول الهالاخا (الشريعة اليهودية).
ثالثًا: الأدب اليهودي الحديث
ظهر الأدب اليهودي الحديث مع حركة الهاسكالا (التنوير اليهودي) في أوروبا في القرن الثامن عشر، وكان من أبرز أعلامها نافتالي هارتويغ ويسيلي وموشي حاييم لوزاتو، الذي يُعد أحد آباء الأدب العبري الحديث، وخصوصًا بمسرحيته الرمزية "لا ييشاريم تيهيلا"، التي صُنّفت ثاني أرفع نص عبري بعد التوراة من حيث البلاغة.
القرن التاسع عشر
في هذا العصر، تنوعت الأشكال الأدبية التي كتبها اليهود، من الشعر الرومانسي إلى الرواية النقدية، وشهدت اللغة العبرية نهضة حقيقية من خلال أعمال:
• أبراهام مابو: رائد الرواية التاريخية العبرية.
• مير هاليفي ليتيريس وإسحاق إرتر في غاليسيا.
• صموئيل مولدر في أمستردام.
• جيهودا لوب جيتيليز في براغ، الذي كتب هجاءً لاذعًا ضد الحاسيديم.
كما ظهرت أسماء نسائية لامعة مثل ريتشل موربورغو التي عبّرت في قصائدها عن الإيمان والهوية اليهودية، وصموئيل ديفيد لوزاتو الذي أدخل الرومانسية إلى الأدب العبري.
أوائل القرن العشرين
مع بدايات القرن العشرين، شهد الأدب العبري قفزة نوعية من خلال:
• حاييم نحمان بياليك، الذي لُقّب بشاعر إسرائيل القومي، وساهم في إحياء العبرية.
• شاؤول تشرنحوفسكي، الذي جمع بين الروح اليهودية والتأثيرات الكلاسيكية اليونانية.
• شموئيل يوسف عجنون، الذي حاز جائزة نوبل للأدب عام 1966 عن رواياته التي جمعت بين التوراة واللغة العبرية الحديثة والتلمود.
رابعًا: الأدب اليهودي في المهجر
أدب اللغة الإيديشية
تطوّر أدب الإيديش (لغة يهود أوروبا الشرقية) في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبرز فيه:
• شوليم أليتشيم: الذي خلّد حياة اليهود الفقراء في روسيا القيصرية.
• إسحاق باشيفيس سنجر: الحائز على جائزة نوبل عام 1978.
• أبراهام سوتزكيفر وتشيم غريد، اللذان وثقا المعاناة اليهودية في ظل الحرب.
أدب الإسبانية اليهودية (اللادينو)
وهو أقل شهرة ولكنه حافظ على التراث اليهودي السفاردي منذ طرد اليهود من إسبانيا سنة 1492، وظهر في مناطق مثل البلقان وشمال إفريقيا.
خامسًا: الأدب الإسرائيلي المعاصر
في الدولة العبرية الحديثة، ازدهر الأدب العبري على يد كتّاب مثل:
• عاموس عوز وأ.ب. يهوشواع، اللذين تناولا الصراعات الأخلاقية والاجتماعية في إسرائيل.
• إيتغار كيريت، الذي اشتهر بالقصص القصيرة الساخرة والغرائبية.
• إيريت لينور وياكوف شابتاي، اللذين مزجوا بين تقنيات سردية غربية ومضامين محلية.
خاتمة
يمثّل الأدب اليهودي بانوراما فكرية فريدة في التاريخ الإنساني، تتنقل بين الديني والدنيوي، وبين الماضي التوراتي والواقع السياسي المعاصر، وبين الشتات والهوية، وبين القومية والانفتاح العالمي. لا يمكن فهم تاريخ اليهود وثقافتهم من دون الغوص في تعبيراتهم الأدبية التي تنبض بأسئلتهم الوجودية، وأحلامهم القومية، وتناقضاتهم النفسية، وتجاربهم الروحية المتنوعة.
مراجع ومصادر
1. Encyclopaedia Judaica (2007). 2nd ed., Macmillan Reference.
2. Heschel, Susannah (1998). On Being a Jewish Feminist. Schocken Books.
3. Harshav, Benjamin (1993). Language in Time of Revolution. University of California Press.
4. Alter, Robert (1985). The Art of Biblical Narrative. Basic Books.
5. Miron, Dan (2000). From Continuity to Contiguity: Toward a New Jewish Literary Thinking. Stanford University Press.
6. Scholem, Gershom (1965). Major Trends in Jewish Mysticism. Schocken Books