الملكة نفرتيتي: سيدة المجد الغابر و"الجميلة التي أتت"
الملكة نفرتيتي، والتي يعني اسمها باللغة المصرية القديمة "الجميلة قد أتت"، تُمثل واحدة من أكثر النساء غموضًا وتأثيرًا في تاريخ مصر القديمة، بل والعالم بأسره. هي زوجة الفرعون الشهير أمنحتب الرابع، الذي غيّر اسمه إلى أخناتون، ذلك الملك الذي ثار على العقائد التقليدية وأسس لأول ديانة توحيدية معروفة في مصر، وجعل من الإله آتون — قرص الشمس — معبودًا أوحد.
نفرتيتي لم تكن مجرد زوجة لفرعون عظيم، بل كانت شريكة في الحكم، ورفيقة في الثورة الدينية والاجتماعية، وأمًّا ملكية، وامرأة ذات حضور سياسي وروحي فريد. امتدت سلطتها ونفوذها إلى قلب الحياة الملكية والسياسية، وكانت — بحق — من أقوى النساء في تاريخ مصر القديمة.
النشأة الغامضة والعائلة الملكية
ظلت البدايات الأولى لحياة نفرتيتي غارقة في الغموض، إذ لا توجد سجلات مؤكدة توضح أصلها العائلي بشكل قاطع. ورغم أن بعض النقوش في مقابر العمارنة تشير إلى أن لها أختًا تُدعى موتبنرت، فإن المعلومات حول والديها تظل موضع جدل بين علماء المصريات.
ثمة فرضية تشير إلى أن والدتها كانت تُدعى تي، وقد حملت لقب "مرضعة الزوجة الملكية العظمى"، بينما حمل زوج تي، وهو آي، لقبًا ذا دلالة لافتة: "أب الإله"، وهو لقب كان يُمنح غالبًا لمن يزوّج ابنته للفرعون. انطلاقًا من ذلك، افترض البعض أن آي هو والد نفرتيتي، لكن لم يُذكر اسمه صراحة في النقوش الرسمية كأب لها، ما يفتح الباب أمام مزيد من التفسيرات والتكهنات.
وفي إطار نظري آخر، يُعتقد أن نفرتيتي ربما كانت الأخت الشقيقة لأخناتون، إلا أن غياب لقب "ابنة الملك" أو "أخت الملك" من ألقابها الرسمية يُضعف هذه الفرضية. ورغم كل الجدل، تبقى حقيقة واحدة جلية: أن نفرتيتي نشأت في محيط ملكي مهيب، وتأهلت لتكون شريكة لأخناتون في واحدة من أكثر الفترات ثورية في تاريخ مصر.
الزواج والحياة الملكية
لا يُعرف تاريخ دقيق لزواج نفرتيتي من أخناتون، إلا أن المؤكد أنهما أنجبا ست بنات هن:
• ميريت آتون (ولدت في طيبة قبل الانتقال إلى أخت آتون)
• ميكيت آتون
• عنخس إن با آتون (التي عُرفت لاحقًا باسم عنخ إسن آمون، وتزوجت من توت عنخ آمون)
• نفرنفر آتون تاشريت
• نفرنفر رع
• ستب إن رع
وقد اقترح بعض الباحثين أن نفرتيتي ربما كانت أمًا لتوت عنخ آمون، إلا أن دراسات الحمض النووي الحديثة فنّدت هذا الاحتمال، مرجّحة أن والدة الفرعون الصغير كانت امرأة أخرى من حاشية أخناتون، وربما شقيقته.
نفرتيتي شريكة الثورة الدينية
لعبت نفرتيتي دورًا محوريًا في دعم إصلاحات زوجها الدينية التي هدفت إلى إحلال عبادة آتون محل الآلهة التقليدية وعلى رأسها آمون. لم تكن نفرتيتي مجرد مشاركة صامتة، بل ظهرت في النقوش والمنحوتات كوسيط بين آتون والشعب، جنبًا إلى جنب مع زوجها.
وفي هذه المرحلة، غيّرت نفرتيتي اسمها إلى نفرنفراتون نفرتيتي، أي "آتون يشرق لأن الجميلة قد أتت"، في دلالة صريحة على تبنّيها العقيدة الجديدة واندماجها في مشروع أخناتون الديني.
انتقلت مع الملك إلى العاصمة الجديدة أخيتاتون (تل العمارنة حاليًا)، وظهرت في مناظر يومية واحتفالية وحتى عسكرية، حيث صُوِّرت وهي تقاتل الأعداء، وهي مشاهد نادرة للمرأة في الفن المصري، ما يعكس حجم مكانتها الفعلية.
التمثال الخالد: أيقونة الجمال والسلطة
خلّد التاريخ وجه الملكة نفرتيتي في تمثال نصفي شهير، نُحت من الحجر الجيري، وعُثر عليه عام 1912 على يد عالم الآثار الألماني لودفيج بورشاردت في ورشة النحات تحتمس بالعمارنة. التمثال يمثل إحدى أروع التحف الفنية من العصر القديم، وقد نُقل سرًا إلى ألمانيا، حيث لا يزال معروضًا في متحف برلين، مثيرًا جدلًا طويلًا حول شرعية حيازته.
ويُوجد أيضًا تمثال آخر لرأس نفرتيتي مصنوع من الكوارتز الأحمر ومزيَّن بالمداد في المتحف المصري، ورغم دقته المتناهية، فإنه لم ينل شهرة التمثال الموجود ببرلين.
لغز المومياء المفقودة
رغم شهرة نفرتيتي وتوثيق حياتها في عشرات النقوش، لا يزال مصير موميائها مجهولًا حتى اليوم. ففي أوائل القرن العشرين، عُثر على ثلاث مومياوات في أحد السراديب الجانبية لقبر يُعتقد أنه مرتبط بأخناتون، إحداها لامرأة شابة، ما أثار تكهنات بأنها نفرتيتي.
وفي عام 2002، أعلنت الباحثة البريطانية جوان فليتشر أنها توصلت إلى أن إحدى المومياوات تعود بالفعل لنفرتيتي، استنادًا إلى تحاليل الأشعة السينية، والشبه التشريحي، ووجود شعر مستعار خاص، وآثار أقراط في الأذن. لكن هذا الإعلان قوبل بالتشكيك، خاصة من جانب الدكتور زاهي حواس، الذي أكد أن عمر المومياء لا يتناسب مع نفرتيتي، مرجّحًا أنها تعود إلى فتاة شابة من العائلة الملكية.
حاليًا، يتواصل البحث في هوية مومياء أخرى تعرف برمز KV35YL، والتي تُظهر خصائص جسدية تشبه نفرتيتي، لكن الكلمة الفصل ما زالت رهن تحاليل الحمض النووي.
نهاية غامضة وغياب مفاجئ
بعد السنة الثانية عشرة من حكم أخناتون، اختفت نفرتيتي فجأة من السجلات الملكية. تشير بعض الرسوم إلى أن وفاتها ربما تزامنت مع وفاة ابنتها ميكيت آتون، وأن حزنها دفعها إلى العزلة أو الموت. حلت ابنتها ميريت آتون محلها في القصر، حاملة لقب "الزوجة الملكية العظمى".
ثمة من يعتقد أن نفرتيتي دفنت في مقبرة ملكية خاصة بأخت آتون، قبل أن تُنقل مومياؤها لاحقًا مع مومياء زوجها إلى مكان آخر، ربما في وادي الملوك، أو حتى في قبر توت عنخ آمون نفسه.
وفي عام 2015، أحدث الدكتور نيكولاس ريفيس ضجة أثرية حين أعلن أن مسحًا ضوئيًا رقميا لقبر توت عنخ آمون كشف عن احتمال وجود ممرات سرية خلف الجدران، يُعتقد أنها تؤدي إلى غرفة دفن نفرتيتي. ورغم أن هذه النظرية لم تُثبت بعد، فإنها فتحت الباب على مصراعيه لأحد أكبر الاكتشافات الأثرية المحتملة في القرن الحادي والعشرين.
إرث نفرتيتي: الخلود عبر الجمال والثورة
سواء أُكتشف قبرها أم ظل مفقودًا، فإن الملكة نفرتيتي تبقى رمزًا خالدًا للجمال، والقوة، والشراكة الملكية الفريدة. في تاريخ امتد لآلاف السنين، لم تحتفظ امرأة بمكانة نفرتيتي في الخيال البشري، لا لجمالها فحسب، بل لدورها الحاسم في مرحلة مفصلية من تاريخ مصر، صنعت فيها التاريخ جنبًا إلى جنب مع ملك آمن بفكرة واحدة: أن الشمس وحدها تستحق العبادة.