قطة ليل

قطةَ ليل
جلست أمام الصحفي الجريء، تحدّق بعينيه بثباتٍ رغم الضعف المتسلّل في صوتها، وقالت: "اسمي الحقيقي ظبى... لكنهم يعرفونني في ملفات شرطة الآداب باسم لميس. أنا من أصل تركي. هاجر أبي وأمي من تركيا إلى الإمارات بعد الحرب الكمالية، ومعنا إخوتي الثلاثة. لم نملك شيئًا حينها سوى مصوغات أمي التي هرّبناها معنا، وكانت كل ما تبقى لنا من حياة سابقة." وصلوا إلى كلباء. لم يجد الأب سوى أن يبيع ما تبقى من ذهب الأم، واشترى بثمنه محلًا صغيرًا للحلوى. "كنت وقتها لا أتجاوز السابعة، لكنني أذكر جيدًا كيف نهض أبي من لا شيء. نجح المحل، وبدأنا نعيش برغد نسبي. وكان أبي يحب أمي حبًا لا يوصف... حبًا نقيًا خالصًا." ثم دخلت "عصمت"، ابنة خالة ظبى، بيتهم. فتاة شابة، اعتادت الحرية، لا تقيدها الأعراف. كانت تعيش مع أمها الأرملة في كلباء، لكن الموت أخذ الأم، فبقيت عصمت وحيدة. "أشفقت أمي عليها، وألحّت على أبي أن تأتينا لتعيش معنا. لم تعلم أن الغربان ستنعق منذ لحظة دخولها بيتنا." كانت عصمت عاصفة. سحرَت الأب، وسرعان ما تغيّر. غدر بأمه، وابتعد عنا. ثم طردنا من البيت، أنا وأمي وإخوتي، بعد أن طلّقها وانفرد بعشيقته الأفعى، يلتهم معها الفاكهة المحرّمة. "أمي المسكينة، لم تجد سوى غرفة ضيقة في حي فقير، وعادت لخياطة الملابس لتُطعمنا. أما أنا، فقد أُودعت مع إخوتي في ملجأ للفقراء واليتامى." سبع سنوات عاشتها في الملجأ. ذُلّ وخدمة وإهانة. "كنا نخدم بنات المدرسة الداخلية التي ألحقونا بها. نغسل ملابسهن، نهيئ فراشهن، نعد طعامهن... بينما نحن نعيش كالعبيد." وفي الرابعة عشرة، شعرت أنها سجينة، بلا مستقبل. فهربت. لم تجد أمها، فقد ماتت، وأبوها سافر إلى بيروت. "تسكّعت في الشوارع. كنت جائعة، ضائعة... حتى قادني القدر إلى باب مفتوح." كان دكانًا لمخدم عمومي. صاحبه شيخ ملتحٍ، يسبّح بمسبحة طويلة، يتظاهر بالتقوى والورع. قصّت عليه قصتها بدموعها، فوعدها بالستر. "قال لي: حتباتي الليلة في بيتي مع الست بتاعتي... ولما الليل جاء، أغلق الدكان، وأخذني إلى شقته. هناك رأيت زوجته، أم محمد، امرأة سمينة ترتدي ثيابًا خليعة، نظراتها تخيف، وصمتها يُرعب." العشاء كان فخمًا. ثم أخرج الشيخ زجاجة خمر، وبدأ يحتسيها بشراهة. "قدّم لي كأسًا، رفضت. نظراته تغيرت، صارت شهوانية، مفترسة. سألته: أنا هنام فين؟ قال: هنا... وأنا معك." صرخت. قاومت. لكنه انتصر. انتصر الشيطان. "حين نام، فتحت الباب بهدوء. ارتديت ملابسي وأنا أنزل السلم، وخرجت إلى الشارع... إلى الفضاء... بلا جسد، بلا روح." في تلك الليلة، ولدت "قطة ليل". مضت سنواتها بعدها بين أنياب الوحوش، تبيع ما تبقّى منها. "واليوم، في هذا المستشفى، ينهشني السل كما نهشني الزمن. أموت ببطء، لكني لا أبكي. لأني كنت أبكي منذ كنت في السابعة... واليوم فقط، صمتُّ."

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال