أحلام في القلب
كانت الأم منكمشة في ركن الأريكة العتيقة ـ و قد أتكأت على جانب رأسها الأيمن على راحتها الرقيقة تسند رأسها المثقل بالهموم ، و على محياها الذي لم تغادره على الأيام وسامته الأولى من جمال الشباب الذي مضى ، هدوء مصطنع حاولت أن تستر به ما يعتمل بين جنبيها من رقة دفينة ، و ألم ممض ، ولكن هدوءها البادي لم يستطع أن يغطي طويلا أمارت الأسى كانت تطل برغمها من عينيها الساهمتين ، و هي ترمق في حنان و عطف فتاها النحيل الذي يشبه العصا ، ووجهه الشاحب و جلسته الواهنة المسترخية ، لقد كانت الحسرة و المرارة تعتصران قلبها الرقيق ، و تبعثان بين الفنية و الحين الآخر بتنهداتها الخافتة ، فتفلت من بين شفتيها الذابلتين أشبه بالنشيج المكتوم ، إنها تحس ببقية من وعيها المكدود من توالي صدمات الأيام التي عركتها ، بما يشبه الفجيعة فيما آل اليه حالها و حال وحيدها الجالس أمامها مطرق و صامت ذابل العينين ، إنها ترى شابا لم يتحاوز العشرين من عمره يذويه السقم و يضنيه الياس من طول ما جاهد في القاهرة من جهد على غير فائدة ، سعيا وراء العمل و الرزق و الشهرة عن طريق الأدب الذي علقه ناشئا ، و شب على حبه يافعا .
و أحس الشاب المرهف مدى ما تعانيه أمه من ألم ، هي تحاول عبثا اخفاء ألمها النفسي عنه لشعورها العميق بعجز وسائلها و قصور حيلتها عن مجاراة جراحه أو التخفيف من وطأة مصابه ، و كأنما زاد هذا الاحساس شعورا بالألم هو الآخر ، اراد أن يروح عنها و عن نفسه بالحديث .
و استنجد الفتى بكل ما يحمله بين جنبيه من شجاعة ، و قال لأمه وهو يحاول أن يكسب لهجته هدوءا و ثقة :
هوني عليك يا أماه و لا تقلقي علي ، إن الطبيب قد أكد لي أن هذه العلة عارضة ، و ستزول بزوال أسبابها عما قريب ، إنك لا تتصورين كيف كانت حياتي في القاهرة ، تلك المدينة المحمومة الصاخبة التي يصارع الناس فيها بعضهم بعضا كدحا وراء فرص الحياة و الرزق الحلال ، لقد كان على ان اقوم بزيارات متكررة لفريق من الناشرين العتاة و لأصحاب المكتبات المنتفخة أوداجهم زهوا و كبرا ، و لبعض أندية الأدباء المنتشرة هنا و هناك ، طيلة ساعات النهار ، عساهم يأخذون بيدي على بدأ حياتي الجديدة ، كما كنت أضطر في كثير من ليالي الشتاء المقرورة الموحشة إلى موالاة السهر و الدأب في التحرير و المراعة حتى مطلع الفجر ، لا يسعفني في مدفأتي سوى جمرات هزيلة خابية ، و لا يمسك أودي المنزوف سوى لقيمات تافهة ازدرادها ازدرادا مع كأس من الماء ، مرة في صحوة الصبح ، و ارى عندما يجتني الليل ، لقد كنت أحرص على الجنيهات القليلة الباقية في يدي جيبي ، و أكز عليها بالأنامل كز الشحيح ، و أنا يروعني تسربها من بين يدي أشياء لم يكن عنها غناء ، أشياء تساعدني على مواصلة جهادي العاتي في سبيل الظفر بأمنياتي العزيزة .
كنت أقول لنفسي عنما يتسلل إلى فراشي أول خيط من خيوط الفجر ، إياك و عيش الفراغ و العطلة يا وفا ، لقد شبعت منه في ميلي فاقك السفهاء المتاليف ، و أعلم إن كنت ناسيا إن المال الذي أحضرتاه معك إلى القاهرة هو كال ما اخرته أمك الرؤوم لأقوات العسر و سعات الشدة ، فلتحرض عليه أبيها المسكين أكثر من حرصك على الحياة .
و تنهد من صدر مكروب وهو ينفس عن ألمه ، ثم استتلى في نبرة شاجية :
أواه يا أماه ، إن تلك الحياة المحمومة ، و ذلك القلق العاصف في انتظار المجهول الذي أمني النفس بروائعه كانا كفيلين بأن يدمرا جسمي و يذيبا أعصابي إلى الأبد ، فحما لله على أن لم يخافا لي سوى على عارضة في الكبد ، سوف تزول على مر الأيام ,
أما الأم التي لم تكن تملك لوحيدها في الحياة سوى حنانها و قلبها و اعزازها و حبها ، فتأخذها نوبة من البكاء العصبي المكتوم ، تنهل له مجامعها انهلال القطر بعد طول احتباس ، و يشرق لها حلقها الجاف ، فتسعل سعلات حادة متقطعة ، ثم تتماسك قليلا و هي تحاول من جديد تكلف الهدوء و الرضا ، بعد ان أمسط وحيدها بصدرها المرتجف ، و أخذ يربت على كتفيها ، يناشدها أن ترفق قليلا بنفسها ، فقد انقضى ما فات وولت ذكريات هذه الفترة و آلامها إلى الأبد .
نعم ، عليهما أن يبدا معا حياة الرجاء و الأمل من جديد ، فإنه واثق من نجاحه ، مؤمن بمستقبله ، و لسوف تكلل هامته عما قريب هالة الظفر و المجد ، و تحتاط ركب جهاده ضجة الانتصار و صيحات المعجبين .و تهز المسكين رأسها البديع ، و هي تؤمئ له في حنان نبيل علامة عطفها على أمنه و عزمه ، ثم ترنو إليه رنوة طويلة معبرة ، هي رنوة الأم التي يتجسم إيمانها بالحياة في ايمانها بوحيدها ، و كأنما هي تناجيه بلغة العيون لتوحي إليه بأنه واثقة في المستقبل ثقته فيه ، ، متعللة معه بعذوبة الأمل و حلاوة الصبر الجميل .
و بعد فترة من هذه المناجاة الصامتة ، يتهدج صوتها ، تقول له :
إننا لا أملك لك يا بني سوى حبي و قلبي ، و معهما كل ما بقى لنا من مال ضئيل لا يكاد يقوم بحاجاتنا ، و لكنه حسبنا من جميع نعم الحياة و كنوزها ، إنني مؤمنة بأن الله الذي يرعى الصغار و الضعاف ، لن يخيب لي رجاء عقدته عليك منذ أن رزقتني السماء بك
و تنهدت في كبد حري و هي تستطرد في أسى :
لقد طالت اقامتك يا بني أكثر من اسبوعين ، لن تفد منهما هدوء لأعصابك ، و لا راحة من بعض آلامك ، إذن وجب عليك أن ترحل إلى مكان آخر وجو جديد ـ أعني إلى تلك البقعة الجميلة الهادئة التي حدثك عنها الطبيب لتستشفي بمياهها قبل أن تفوتك فترة العلاج في هذا الموسم ، إنني لا أطيق أن أراك يا وفا على هذا الهزال الملح و الشحوب البادي ، فإنه لو تعلم يا حبيبي ، يمزق مني نياط القلب ،ـ و يكاد يسلبني القدرة على الأمل و الصبر و التفكير !
أما وفا الذي يعلم علم اليقين أن والدته أصبحت لا تستطيع أن تحصل على ما تواجه به نفقات بيتهما الصغير في " دار السلام " إلا بشق الأنفس – و أن كانت تخفي ذلك عنه - كما يعلم أن رحلته غير الموفقة إلى حيث كان يبغي الثراء العريض والشهرة السابغة عن طريق الانتاج الأدبي وحده ، قد أتت على كل ما أخرته له المسكينة ليكون ذخيرة لمستقبله ، فقد ظل ساهما مطرقا لا يحير خابا كان الحديث غير موه إليه ، و كيف بالله يستطيع الكلام ، وهو يشعر في قرارة نفسه أنه أصبح كلا علة والدته المسكينة العاجزة ، و أن المروءة و الرجولة و شرف الضمير كلها تهيب به ألا يقبل منها بعج اليوم درهما واحدا يبدده غيما لا خير لها و لا ليتهما الصغير فيه ، لقد أعمل فره طويلا منذ أيام قر قراره من بعدها على أن يشخص تا إلة ليون، لعله يجد من عكف بعض اساتذته من معارف رائد طفولته القس " ديمونت " اولئك الذين لقنوه العلم صغيرا و اعجبوا بمواهبه يافعا ، ما يهيئ له العمل الأدبي المناسب الذي يشعر معه بالكرامة و الحرية وراحة الضمير ، أنه يفضل العمل الحر مع بعض مضايقاته على أي عمل رسمي آخر بالحكومة ، لأن هذه تصر له سجنا كيبا موحشا للطغيان المنظم يدبر أمه ذلك الطاغية المستبد ك بونابرت " الرجل الذي يكن له وفا بغضا متأصلا و كرها مريرا .
و إذ طال وجومه ، حثته الأم على متابعة الحديث يقولها :
أراك صامتا يا وفا ، هل هانت عليك صحتك إلى هذا لحد ؟ أ تعلم يا بي إنها رأس مال أمك التي لا تستطيع أن تظل ساكنة ازاء استهانتك بها و تفريطك فيها ؟ لكم يحز ذلك في قلبي ، فبالله لا تزد في آلامي و أوجاعي ، و ازمع هذه الرحلة من الغد
و لكن الابن يحيبها في ألم و عزم :
سأسافر يا أماه ، و لكن إلى حيث يناديني واجب السعي وراء مصيري و مستقبلي ، لا إلى تلك الأمكنة الت لا يستسيغ الاقامة فيها إلا جماعة المترفين المتبلطين الذين يؤثرون حياة الفراغ و الدعة على حياة النضال و الكدح .
ثم صمت برهة ، ليتابع كلامه ، قبل أن يستمع إلى احتجاج أمه التي كانت على وشك أن تلقي به .
و لا تسنى يا أماه أـن هذه الرحلة التي تريدينني اليوم عليها تحتاج إلى بعض المال ، و هو ما يعوزنا في هذه السنة المجدبة التي قل فيها الحصاد و الثمر ، ثم ثقي أن نفسي لا تطاعوني على أن اسلبك بعد اليوم درهما واحدا .
و تبتسم الأم ابتسامة عذبة بعد أن يثير هذا الكلام كوامن شجونها ، تقول له في حنان :
يا لك من فتى عنيد ؛ أ لم أحذرك من قبل ألا تشغل لك بالا بمثل هذه التفاهات يا وفا ، هل تحسبني من جمود القلب ، وبلادة الحس بحيث أبقى على فضلة زائلة من المال ، و لا أبقى عليك أنت .
وتستضحك مستطردة :
خل عنك هذه الأمور يا بني ، فقد دبرت لك منذ أسبوع كل شيء ، إننا إذا أعوذنا ما نبيعه من التمر في هذا العام يا حبيبي ، فلن تعوزنا معضلة من حلها في مقدورها أن تنقذ الموقف و تنيلنا ما نريد .
و قبل أن تتحرك شفتا الفتي بالاعتراض ، دانته الم ووضعت يدها الرقيقة على فمه ، و هي تهمس له في حنان أن صه ، و تشير لأصابع يدها الأخرى إلى الحقيبتين الكبيتين اللتين أعدتهما له في ركن الغرفة ، في أحدها ملابسه ، و كل ما يحتاج إليه ، و في الأخرى كتب بترارك و فرجيل و دانتي و شكسبير المحببة إلى روحه و عقله ، و هنا لا يتمالك الفتى بوادر انفعاله ن فيحتضن أمه في وله و حب ، وهو يقبل رأسها و يديها ، و موع الشكر و الامتنان تفر فرارا من عينيه ، و تسابه القدرة على الكلام و النطق .
و إذ يفهم بمغادرة الغرفة تجذبه الأم و تمسك بيدها احدى أذنيه و تضغط عليها ضغطة خفيفة ، و هي تقول له محذرة ، و البسمة الرقيقة لم تفارق شفتيها .
إياك و لهو الشبيبة يا وفا ، و حذار يا حبيبي أن تخدعك فتاة لعوب من عذارى السافوا .. لقد كفاك ما لقيت هذين العامين على يدي أنطونين و صديقتها جان .
أعاهدك على ان قلبي سيظل خليا كما هو الان إلا من حبك و شخصك يا أماه
و مع فجر اليوم التالي ، كان وفا مستقلا مع رهط من المسافرين عربة البريد ميممة بهم صوب الحواضر و القرى الواقعة على الطريق " الهوت سافوا " مصعدة بهم جيادها اللاهثة و عجلاتها المدوية في مراقي الربى المطرزة ، بأثيث النبت و نضير العشب .
و لكن لا مرتين كان غائبا بوعيه عن تلك المناظر الفاتنة التي تتعاقب على مرآة بصره ، لقد كان الفتى وهو ساهم ذاهل عن كل ما حوله ، يعجب أبعد العجب لقهود حظه و تخلف نجمه و اضطراب زورق حياته في غمرات متدافعة من الركود و الظلمة و الياس ، يا الله ، لم تحاربه الأقدار حربا ظالمة ، فتغدق عليه مواهب الأفذاذ العباقرة ، ثم تسلبه بالشمال حتى حظ الأوساط من الدهماء و العامة .
لكم حرق صاحبنا الارم آسفا و كمدا على تلك الفترة التي مضت من عمره في غير طائل ، و مضاها بعد التخرج قعيد بيته في " ميلي " ليس له هم الا الاستجابة الخرقاء لعواطفه الجامحة ، ونزوات شبابه الفائر ، حتى كادت أهواؤه و نزواته تجني عليه ، و تتلف فيه أوتار حساسيته ، لقد شرب المفتون كأس تلك الحياة الرحبة ، فلما أن تبددت سطوة السكرة ن و بحث صاحبنا عن حلاوة تلك النشوى ، لم يجد ثم غير الخمار و الدوار و الحسرة ن و عاد من تلط الرحلة المضنية في عالم ضلالاته ، فارغ الوطاب ، عانى الأعصاب ، سقيم القلب و النفس ، و تلفت إل كفيه يبحث فيهما عن مغنم ظفر به ، فلم يجد طيهما سوى الفراغ أو قبض الريح .
لكم تطلع شاعرنا الحائر الولهان إلى غيض من اشراق الروح ، و أنوارها ، و على مدد زاخر من ترانيم السماء و الهامها ، عساه يخلص مواهبه السجينة وراء قضبان جسده ، و يفك عن قلبه المحتبس وراء أ\ضالعه أغلال حياته العقيمة التافهة أنه يريد بكل ذرة تحتلج حياة و حركة في كيانه المحموم / أن يتفتح بأجمعه لأرفع رأسي و أسمى مذاقات الحياة و الفن ، و أن يكوي قلبه الرهيف لا على حب أقداس ثلاثة ، الله الجمال و الطبيعة ، فهي التي ستمده بقيثارة العجب فيستطيع أن يرفع شعر الجمال و الجلال و الوجدان .
أتراها حياة التأمل و القراءة و الفكر هي التب نستطيع أن نشبع نهمه و تشغي غليله إلى تذق أسرر الجمال ، و الجلال في هذه الأقداس الثلاثة ؟ أنم عساه شيء لآخر مكنون لم يكشف بعده سره المحجب أو حتى الطريق إليه ,
يا عجبا لقد الهمته بقية من النور في قلبه إن ذاك المجهول الذي ظل دائب البحث عنه ، هو الحب ، و الحب وحده ، ولكن أي حب ؟ أ تراه ذلك اللهو الماجن الذي اسقمه ، و استنزف قواه ، و اوحى إليه بالمهلهل التافه من النثر و النظم الذي لم يجد له سوقا يصرفه فيها ، عندما شخص في رحلته الفاشلة إلى عاصمة الآداب و الفنون أم عساه شيء آخر عجب ، لم يتح له أن يكتشف بعد الستار عنه ، و إن كان متلهفا إلى نفثة من نفثاته السحرية تطهره و تحييه ؟
واستسلم وفا إى هواتف اللا وعي من نفسه الباطنة ، نسى في تلك اللحظة كل تحذيرات أمه ، و تضرع إلى السماء من أعمق أعماقه أن تهديه الطريق إلى هذا الينبوع المجهول .
ابتهج الشاب لحسن التنسيق الذي بدأ فيه أثاث غرفته ، و أرضاه مال موقعها من بناء المصح ، و لم يتمالك بوادر فرحته ، فأسك بيد الطبيب يشد عليها قائلا :
شكرا لك يا دكتور ، لكأنما أوتيت شيئا من العلم بعاداتي و طباعي ، إنني امرؤ أحب البساطة ، و أوثر الهدوء و العولة ، و ليس أحب إلي من أن أفتح عيني في مطلع كاث صبح عى جمال الحياة و مفتن الطبيعة ، و لسوف تنبلتي هذه الحجرة العادة ذات الموقع الجميل كل ما اشتهيته .
افاسئضحك الطبيب الشيخ لهذه المجاملة الرقيقة ، و قال:
إني لأعجب حقا لحرصك على إيثار الهدوء و العزلة ، لعلك يا سيدي أول شاب أصادفه هنا لا يضيق بصور هذا المكان و هدوئه ! على إنك لن تصادف في طريقك كثيرين من عشاق هذا المكان لأننا في أخريات هذا الموسم و لخريف على الأبواب و من حسن حظك أن اتي تجارك في الغرفة الملاصقة فتاة وديغة رضية الشمائل تؤثر بورها الهدوء ، وتفل دائما بأذيال الصمت ة العزلة
و تفتحت أذان وفا لهذه الجملة العابرة ،وو سأل طبيبه بلهجة م لا يهمه الأمر :
أقول إن جارتي فتاة ؟ ترى ما الذي أمسكها إلى الآن في بلدتكم و الموسم كاد ينتهي على ما تقول ؟ لعل موكنها فريب من هنا ، أو لعلها تقيم مع والديها إلى حين يتمان علاجها بمياه هذه الحمامات
أوه ، لست أعني أنها آنسة ، إنها السيدة جوليا شارل زوجة رجل فاضا من أعضاء مجمه العلماء ،و لا أسرة و لا اسرة لها هنا ، لقد جاء بها زوجها إلينا بعد ان ظلت تشكو من أعرض علة خفية حتلا لها أباء القاهرة ن و أخيرا راوا أن يجربوا معها علاج الطبيعة من هواء طلق ، شمس سافرة ، و ميه جارية ، و مناظر بهيجة .
وصمت الطبيب لحظة ثم استطرد يقول :
و ها هي قضت أكثر من ثلاثة أشهر مع وصيفتها في هذا المصح ، و سترحل عما قريب .
ثم استأذن الطبيب صاحبنا وفا في أنى يصحبه إلى الطابق الأول ، ليتناول معه قدحا من الشكولاتة بالبهو الكبير، و ليتحدث قليلا عن النظام الذي سوف يتبعه في العلاج ، و ما إن خطا الشاب خطوة واحد داخل البهو حتى اجنذب نظره بجوار المدفأة الرخامية جسم رفيق نحيف لامرأة تبدو في ربيع العمر ، و إنما كان الاعياء البادي على كيانها الناحل قد طاد يسلبه نضارة الشباب ورونق الصبا .
و انتبهت هي بمقدمهما ، و ألقت على وفا نظرة غيها معنى التساؤل البريء ، و لما سرح هو النظر فليى في معارف وجهها ، راعه طابع النبل و السماحة الذي يعلو جلبنها الوضئ ، مما راعته عيناها النجلاوان الكحيلتان اللتان لم يعهد مثير لهما في هامة الفرنسيات والبريات ، إن فيهما عمق الاسى ، ما أن غي سوادهما جاذبية الحزن ، أنا الشعر فأثيث حاك كفحمة الليل ، ، و الشفتان رقيقتان ساهمتان ، رسم الألم النفسي الدفين على حناياهما طابعه العميق ، فجعل الرائين يطالعون في بسمتها الحزينة الفاتنة معنى التبرم و الضيق العشو الناس و بالحياة .
و قال الطبيب وهو يعرف كلا منهما بالآخر :
سيدتي أسمحي لي أن أقدم ضيفا جديدا حل الليلة علة نزلنا المتواضع ، إنه شاب على غرارك بعشق العزلة و يؤثر الوحدة ، وأعلم من صديق له أنه شاعر رقيق مجيد ، و لل جمال المنار في " أكس " سيلهمه رائع من الشعر نعجز عنها مفاتن القاهرة ، إنه مسيو وفا دي وفا .
ثم ابتسم الطبيب في ابتهاج ، وهو ينقل نظره بينهما ، و استطرد يقول :
و أمل إلا يأنس كل منكما بالأخر طيلة الفتة القصيرة الباقية لك في هذه الضاحية
و مدت الفتاة إلى وفا يدا عاجية نحيلة ، هي تقول له لصوت فيه غنة أجنبية غريب :
لي الشرف يا سيدي الطبيب ، و إن كنت وددت لو لم تقتحم عليه عزلته لتعرفه بي ، فإني أعلم أن الشعراء الشبان هم أول من يضيقون بالمعارف و بالناس .
ثم انفرجت شفتاها الليماوان عن بسمة عذبة و هي تقل في اطف ورقة :
على أن لسيدي أن يثق بأنني لن أكون يوما سببا في التثقيل عليه ، و لعله لن يصاجفني في هذا البهو إلا في النادر ، غذ أحب أن أقي كل وقتي بعد الهلاج و النزهة في غرفتي الخاصة ، فالوحدة غيها أخف على نفسي و أحب إلي ؟
و اضطرب قلب وفا في صدره ، و تصعدت حمرة الخل فورد وجنتيه ، و أرعشت يديه ، و قال لها في شبه لعثمة مغمغمة :
عفوا يا سيدتي ، أؤكد لك أن الشعراء ، على زعم أنني واحد منهم لا تطيب لهم الاقامة أو تهنأ لهم عيشة إلا في ظلاا وريفة من الهاماتكن السماوية الخالقة ، و عبلا مقربة من حنان أنفاسكن الرطيبة العاطرة ، فلتتفل على سيدتي و تسعني بلحظات قلائل من أويقات راحتها و عزلتها ، لأكن أنا الذب لا أثقل عليها بهذا الرجاء .
ثم صوب إليها نظرات تومض ببريق الظمأ إلى ذلك النبع الخفي المجهول ، لقد أحس في تلك اللحظة حلال اشراقة من العام الغيب ، أن هذه المرأة التي تصور له طيفا من عالم أحلامه المسحور سوف يكون لها شأن أي شأن في مصير حياته و قلبه
و سمعها وهي تجيبه في صوت الناعم الخفيض :
إن الحياة هنا سوف تبغض إليك متاع الاجتماع و الليالي السامرة يا مسيو وفا ، و سترضى نزعتك الحالمة إلى الخيال و التأمل و الشعر ، عنجها لن تكون بحاجة حقا إلى من يبدد عنك ذكرى عربتك ووحشتك .
ثم وقفت متهبئة للأوبة إلى مخدعها ، و هي تتكئ على ذراع وصيفتها ، و استأذنت في أدب من الجرحين و ألقت عليهما تحية المساء في نبرة موسيقية عذبة ، و سارت في خطى وانية ، و عدها لاحظ وفا وهو خافق القلب ، لهفان النفس ، أن للفتاة قامة بديعة حقا ، لم يحجبها عنه لفاعها الحريري الأنيق الذي أسدالته فوق كتفيها .
و غامت عيناه قليلا بسحابة عابرة من مكبوتات نفسه ، و ذهل عما حوله ، و نسى الطبيب و قدح الشكولاتة ن بل نسى وعيه ، و لم يتمالك ان تنهد تنهدا عميقا في خفوت ، وهو يشعر بإحساس فريب ، ينبض في منطقة بعيدة ثاوية في أعماقه ، و يدوي كالهدير المكتوم بين أضالعه ، فيهز مل كامنة فيه .
و ما لبث أن أعتذر من طبيبه بدعوى و عكة خفيفة من العياء و التعب ، فهو يحب أن يأوى إلى فراشه مبكرا في هذه الليلة ، إذ ما زال يحس بقية من وعثاء السفر تعم جسمه و تضنيه ، و علم الله أن ليس شعور بالرهق أو التعب ، و أنما هي خطاه الوانية الحالمة ، كانت تقوده في هذه اللحظة بدافع من اللاشعور ، إلى حيث يحس بأنه قريب من شخص تلك التي هزت كيانه هزا .
ترى هل قدر له أخيرا أن يلتقي بآفاقه الحبيبة في " أكس " و هل سيستمتع بين أحضانها الحانية بأروع مفاتن الطبيعة و أجمل مشاعر الخيال و الحب ، تلك التي ستلهم قلبه و براعته طرائق البيان و الشعر ؟ من يدري ؟
و دخل غرفته وهو لا يزال كالمسحور : يا للحظ ، بل يا للسعادة ، إن الغرفتين متلاصقتين ، وأنه ليسمع الآن صوتها الرقيق ذا النبرة الغربية الساحرة و هي تصدر إلى وصيفتها بعض الأوامر قبل أن تأوي إلى فراشها السعيد .
و لم يغمض له جفن في تلك الليلة ، و طال سهاده ، و نابه المضجع ، فقد ظل يناجي السماء بصوته الخافت الملهوف ، وهو يقول في ابتهال : " رحماك يا ربي ، إذا لم يكن هذا هو الحب فترى كيف إذن يكون ؟
ثم يستطرد في المفاجأة و قد مد ذراعيه بالضراعة و الدعاء ليهمس من أعماق البعيدة : " يا إلهي ، ألق بين ذراعي حلما من احلام الماء ، بل ضع في طريقي هذا الملاك العلوي الطاهر الذي سينير بضيائه الناعمة و أنفاسه الرحيمة ظلمة فؤادء ,
و غادر فراشه مع الفجر ، و أبدل ثيابه و انطلق إلى مروج الجبل يصعد في حزونها بجسم واهن و عقل ذاهل ، و عصب مهزوز ، إنه يريد أن يغر من طيف جوليا الذي ظل يلاحقه منذ أل الليل ، و لكن هيهات ! و تذكر نصيحة أنه و تحذيرها له ، و لمنه نسى التحذير و النصيحة بأسرع من لمح الطرف ، ليستحضر من جديد في قلبه ، و ذهنه طيف هذه المعبودة ، يستعيد في سمعه الباطل نبرات صوتها الرقيق الأغن .
لقد كان سعيدا سعادة فراشة مرحة من فراشات الحقول ، كن يجمع بكلتا يديه أجمل ما صافه من زهور الجبل البرية ، ليصوغ منها بذوق الشاعر المرهف تلك الباقة النظمية العبقة التي يصور له الخيال و الوهم أنها ستسرها و ترضيها ، و تلفتها من جديد إليه .
و عاد إلى المصح مضني الجسد ، و لكنه سعيد النفس ، متوثب القلب ، و على الطنف الكبر الذي يقود إلى مدخل الدار وجدها تتهيأ للذهاب إلى الحمامات ثم إلى رحلة الصباح بين جواسق الجبل ، إن الصباح قد جلاها له بجمال جديد ، و حلاها في عينيه بفتنة عجب ، و تقدم هو إليها على استحياء يحييها تحية رقيقة اضطربت بها شفتاه الراعشتان ، ثم مد لها يده بالباقة الجميلة التي لا تزال مبتلة بأنداء الصباح ، فتقبلتها باسمة شاكرة ، ةو مضت لتوها مع الوصيفة ، بعد أن خلفته نهبة تواتر نفسية لا تهدأ و لا ترحم .
و نسى نفسه مرة أخرى ، و وته مشاعر اللحظة فغلبته على أمره ، و لم يكتف بأن أتبعها بصره و عي تهبط درج الطنف كالطيف ، بل كاد يجري في أثرها وهو ذلها مبهور النفس ، مصهور الروح ، و بينا هو يهم بالملاحقة ، إذ بيد تمسك كتفه في رفقه فتوقظه من حلمه ، و ترده إلى وعيه ، و لما استجار وجد الطبيب يبسم له في عجب و عتب ، و هو يقول له بصوت ترن فيه نبرة التهكم :
يا لك من شاعر متمرد على فننا يا سيدي ، أهكذا تفر من طبيبك على عجل ، و تنسى تحية الصباح .
و استقلت الشاب خدلة من نفسه ، لم يتمالك معها غلا ان شارك طبيبه الابتسام ،و رافقه إلى داخل البيت لا يلوي على شيء
و تعددت لقاءات وفا لجوليا بين أحضان الجيل الزاهية بالخضرة و الاء و الزهر ، خلال مناوه الحمامات الصيفية الممتدة عبر رقعة فسيحة من مدينة أكس ، و بين جواسق أرباضها القريبة و أثباج بحيرتها الرحيبة العميقة ، و لكنها مقابلات لم يكن لها في نفسية ملاكه الشارد ، وطبي النافر ‘ى ألم عابر وصدى موقوت ، يا للمسكين ، أنه لم يعد يستطيع أن يحبس فيوض هذا القلب ، و لا أن يهدهد من تواتر هذا الصدر ، فلقد مضت أيام ثمانية على ليلة اللقاء الأول في بهو المصح ، علم الله كيف قضى لياليها أو عاش أسابيعها ، لقد عزم من فوره أن يخترق نطاق صمتها الكثيب ، و عزلتها المنفرة ،إن رغبة مجنونة فائرة تدفعه دفعا إلى أن يعكر بثورة وجوده العاصف صفاء وجودها الهادئ ، و ان يفرض على حياتها الوادعة الهادئة حياته المحمومة الكابية ، و لن بعد ذلك من أمرها و أمره ما يكون .
و التقى بها في أصيل يوم ، و كانت متلفعة بشالها الأزرق الأنيق ، وقد أحاط ليل شعرا بوجها الفاتن في شحوبه فتنة بدر مخنوق ، كانت تجلس مع وصيفتها على مقعد حجري من تلك المقاعد المنثورة في طريق أكس ، و تصور لرائين غي جلستها هذه احدى عذارى فولجينو أو ربة من ربات الأساطير .
وداناها الشاعر في وجل بعد أن ألقى عليها تحية المساء ، و ما كان أشد عدبه حين سمحت له بالجلوس على مقع حجري مجاور ، و زاد من عجبه أن صرفت الوصيفة بعد أن زودا\تها بأوامرها بشأن اعداد الحرة و العشاء ، فتركتهما لخلوتهما
و حلا لهما الجو ، و بدأت هي الحديث بعد أن رنت إليه مليا ، قالت تجامله
يبدو لي يا مسيو وفا أنك كثير التفكير في كل من تنسج لهم الهموم و الأحزان حياتهم و مصائرهم ، إن لك وجها نبيلا ينم في كل لمحة من لمحاته على مدى ما تنطوي عليه أعماقك البعيدة من حنان و عطف على هؤلاء المساكين ، و هذا لعمري جميل منك ، و لكن صدقني أن ذلك يتخيف الكثير من سعادتك ، فضلا عما فيه من ايذاء لسلامة أعصابك وراحة شعورك .
و تخيم لحظو من الصمت يجيب وفا بعدها بقوله :
إن السعادة يا سيدتي كأس متعددة مذاق الرحيق ، هنالك من يجدون سعادتهم في كل صفو هانئ من العيش لا ترنق حلاوته مرارة ولو عابرة من مرارات الحياة ، على حين لا يستطيع ان يحس الآخرون نعمة هذه السعادة إلا إذا عركتهم رحى الحياة ، ن وزحمت أفاقهم بوهج الألم ، و سكبت في أفوافهم مررة الأحزان ، ذلك لأنهم يهيمون أبدا وراء ما يسمونه بالإثم العبقري الخصيب ، بعد فنحن مسوفون إلى أن نحيا الحياة في كثير من مراحل العمر على النمط الذي تريده لنا بواعث الصدف ن رضينا بذلك أم كرهناه
و قالت هي بعد أن تأملت فيما هتف به : إذن يكفيك يا سيدي ما قد تكون محاطا به من منغصات خاصة فد تكرهك عليها صدف الحجياة أو ظروفها النباغتة ، و اطلب العوض عنها في شتى مباهج الشباب ، لا أقول إ عليك أن تستعيض بحياة الغريزة عن حياة الفكر كمبدأ لا تحيد عنه ،و لكني أنصحك بأن تفتح للمدخور بين جنبيك من حيوية الشباب و قوته طاقة و لو صغيرة تنفذ منها إلى جمال الحياة ، و تتحسس موائدها الحافلة بالمناعم و الطيبات .
ثم صمتت برهة سرحت خلالها عينيها الناعستين في الأفق المخضوضر البعيد ، الذي بدأت تغزوه ظلمة ما بعد الغروب ، قالت له كالحالة ، في صوت هدجه الحنان و الألم :
إني أرع إليك يا سيدي أن تفر بشبابك القوي الجميل ، و تنأى به بعيدا، بعيدا عن مدار شبابي الحزين المريض، أ تعلم لماذا ، أنا لائذة داما بالوحدة ؟ ذلك لأني أوثر أن احتمل وحدي منغصاتي جميعا ، فلا أطيق أن اسمم بقليل منها هناءة الاخرين ، أ أن أزيد على آلامهم مقدار أنملة.
و نهضت معتذرة ببرودة الجو ، فلم تجع له حتى فرصة الاحتجاج و العتب
و سار الشاب إلى جانبها صامتا مطرقا في كآبة ظاهرة حتى أوصلها إلى مدخل المصح ، حيث وجعته ، و دخلت ـ و عاد هو ادراجه وحيدا تطويه الأحزان و الظلمات ، و تنسج من حوله جوا غريبا شاحبا ، و لكنه جو يستطيع أن يتنفس فيه كآبته و حزنه .
لقد بكى وفا في تلك الليلة حتى مطلع الفجر
و في صحوة اليوم التالي كان الشاعر منبها لرحلة جحديدة عبر البحيرة ليزور دير " الهوتكسب " الأثري ، هساه ينشد بعض السلوى بين دمنه و خرائبه ، و ركب زورقا ليعبر البحيرة ، تولى التجديف ملاحان قويان من أبناء الساموا ، أرادا أن يدورا بزورقهما الكبير دورة قصيرة حول الخلجان البديعة على سبيل النزهة و الترفيه عن صاحبنا الحزين المهموم ، قبل أن يلقيا المرساة على رصيف الدير ، و على حين غرة ، تبدلت السماء الصافية الأديم بأخرى مزبدة بالغيوم السوداء ، و أنذر الهدوء المريب بالعاصفة المزمجرة ، و بدأت اندفاعات الموج المزبد المزبد تغصن من سطح البحيرة ، و تعلة و تهبط بالزورق في عنف وحدة ، و بينا وفا يحث الرجلين على الاسراع لبلوغ الشاطئ الموموق ، إذ به يلمح زورقا آخر على مسافة بعيدة منه تتلاعب له نواثر الموج ، حتى ان الناء و الزبد يلففان من فيه ستار الموت الرهيب .
عندئذ ثارت حمية وفا ، بعد أن هجس في أعماقه قلبه يحدثه بشيء توترت له أعصابه ، فأخذ يستنهض بناءاته المتوسلة من همى الرجلين الذين راحا يجدفان بكل ما فيهما من عزم الرجولة و فوتها، بعد أن حولا الدفة صوب الزورق المشرف على الغرق ,
كانت هي جوليا التي تتنزه بالزورق في رفقة وصيفتها ، عندما باغتت ملاحها المسن تلك العاصفة الهوجاء ، فالتاث عليه الأمر و لم يستطع السيطرة على زورقه ، و لما داناهم وفا وجد جوليا ممدة على أرض الزورق ، و قد غشيتها نت هول المفاجأة غشية من اغماء راحت تهذي خلالها بغمغمة خافتة في مفهومة على حيت أخذت وصبغتها المسكينة تصرخ و لولول :
و حملها بمساعدة أحد الملاحين إلى أن أخذ الجواسق القريبة حيث استقبلهم القرويون أصحاب الكوخ في حفاوة و رعاية ـ و ثم على أحد الفرش النظيفة أرقدها و أمر بأن توقد النار إلى جانبها ريثما يجيء الطبيب .
و بات في تلك الليلة بجوارها يسمع هذيانها ، و قد أخذها بحران الحمى ، و بين الفينة و الفينة تتصعد دعواته الحارة إلى السماء كي تنقذها من أجله على حين تبلل دموعه الواكفة وسائد الفراش الذي رقدت عليه المريضة ، وهويعمر بالقبل الحرار شعرها و يديها ,
و فعل الدفء و الدواء العشبي أثرهما في تبديد غياهب هذه الحمة العارضة ، و قبيل الفجر استيقظت جوليا ، و ثاب إليها وعيها ، وراعها أن تجد هذا الاخلاص والحمامن يتمثلان على وجه وفا ، الشاحب من أقر التفكير و السهر ، بأنبل و أسمى معاني الحب و الأخوة ، و هنا انتشرت على شفتيها ابتسامة حزينة ، حركت لسانها بهذه الجملة المؤثرة : لك الحمد يا رب ، لقد رزقتني أخا يستطيع أن يذرف دمعة على ثراي الجديد
فبادرها مصححا : بل رزقك الله حبيبا وفيها أيتها المعبودة جوليا ، سيعيش لك ، يفنى من أجلك
فتنهدت من صدر وجيع و هي تقول في كآبة :
بل يكفيني الحاؤك ، فما حاجة فتاة مثلي يلفها الشحوب و الذبول ، و برفرف عليها جناحا الموت ، لمن لا تزال الحياة متفتحة لشبابه و آماله ، ؟ لا ، لا ، حرام عليك أن تدفئ هذا الشباب و هذه الحياة في ظل خريفي المقرور المتهافت
و أغضت عينيها و أخذت تبكي بصوت خفيض .
و يمسح وفا دموعها بمنديله ، وهو يربت على رأسهاو كتفيها ، و يقول بصوت أخذ منه التأثر مأخذه :
لا تقولي هذا يا حبيبتي جوليا ، أقسم إنم ستعيشين لي و تحين من أجلي .
و عندئذ فاض في قلبها السرور و ازداد في نفسها جمال الحنان ، و أخذ قلباهما يتناجيان بأعذب الأماني و أجمل العواطف، و غمرتهما سعادة هذه اللحظات حتى انستهما كل أشجان الحياة .
و عاشا معا حياة الحب الظاهر العذري ، بين أحضان أكس طوال الفترة التي بقيت لهما من أمد العلاج ، و عرف وفا قصتها الشاحبة ، إنها فتاة ولدت في جزيرة من جزر المحيط الهندي ، و كانت طفلة رضيعة عندما حدثت مذبحة البيض في سان دومينيك ، ففرت بها أمها من وجه الموت على ظهر احدى السفن ، و قدر لهذه السفينة الغرق فالتقطتها يد رحيمة رجتها إلى أبيها الذي اصطلحت عليه في تلك الفترة عاديات الأيام و هاجر بأسرته إلى فرنسا حيث أدركته منيته ، فكفلتها احدى قريباتها الفقيرات في مقاطعة بريتاني ، و لما اختطف هذه القريبة الموت ، دخلت احدى الملاجئ حيث ظلت فيه إلى أن ناهزت السابعة عشرة ، و عندئذ خطبها لنفسه زوجها الحالي الذي كان فذا كريما ، من بين كل من عرفتهم في عطفه عليها ، و رعايته لها ، حتى ارتضت أن تدفن شبابها في ثلوج كهولته عن كطيب خاطر .
و آل وفا على نفسه أن ينسيها محنتها ، كما عاهدته صادقة أن تنسيه في ظلال حبهما السماوي آلامه و أوجاعه ، و أجدى الحب على المريضة ما لم تجده كل أيم العلاج السالفة ، فانبعثت في ملامحا ، و في كل عرق ينبض في جسمها نشوة السعادة ، اشراقة الحياة ، لقد وجد كل منهما في ظلال حبيبه فردوسه المفقود ، و ضم حناحه على أليفه و عشه .
و عرف زوجها ، الذي كان في مقام والدها ، بهذه الوصلة الروحية النبيلة ، فشجعها بعد أنلمس أثرها النفسي الرائع في زوته ، و كشف عن ذلك القلب الذهبي الرحيب الذي يحمله بين جوانحه هذا الشاعر الحالم الملهم .
وقضى وفا جانبا من الشتاء على مقربة من دارها في القاهرة ، حيث استمعتا معا بأسابيع جميلة ، و آماسي سعيدة أمضياها في اسعاد القلب و الفكر و الروح بأطهر و أنقى مباهج الحياة و الشباب و الحب .
و انقضت أشهر الشتاء على عجل ، هكذا السعادة أبدا أمجها موقوت ، و حبلها غير ممجود ، و استأذن الحبيب حبيبته في الرحيل ، فقد شاقته أمه التي ظلت متلهفة على أخباره قلقة على أحواله ، من جراء هذه الغيبة الطويلة التي لم تدر لها من سبب .
و تعاهدا على اللقاء مرة أخرى في مطالع الخريف من ذلك العام بين أحضان " الهوت سافوا " حيث شهدت مديمة أكس مول هذا الحب الخالق ، أزلت بوريف خمالها سعادتهما الوليدة ، و أملهما الرطيب .
و عاد إلى ميلي ليتعوض بحنان أمه عما ستحرمه فترة الفراق من حان الحبيبة ، ولكن يا للمسكين ، إن القدر يأبى عليه حتى هذه السعادة اليسيرة ، إذ وجد أمه الجازعة عليه تعاني غصص المرة ، و حدثه كل شيء في بيت الأسرة بمجى ما كابدته المسكينة طيلة هذه الفترة من عناء و شقاء و فاقة .
و قضى هذه الفتة الكئيبة معللا النفس ، بعد آلامها بما سينهله من كؤوس الحب المترعة الصافية مع الحبيبة في رياض " أكس " و مرة أخرى يفجعه القدر في أمله و يحركه من سعادته ، فيبأى عليه هذا اللقاء ، و يقدر عليه ألا يبقى له من ذلك العهد الرخي السعيد ، الذي انقضى كالحلم ، رسم ولا أثر .
لقد ذ هب الشاعر إلى فردوسه بل إلى عشه ، كي يبنتظر قدون الحبيبة ، فما وجد غير النبأ الفاجع بأشفائها على الموت بذات الرئة ، بعد أن عانت هول سكراته ، و هي تهتف بحبه و اسمه ، فارتد إلى ماكون ، في هذه البلدة أته نعيها فهاله الخبر ن و برح به الحزن ، و أعجزه الصبر على الفجيعة ، فانفجر كالطفل الغرير يبكي بمقلتيه و بقبله ، ، و قفل راجعا إل أمه ينعي لها شبابه و أمله و فلبه ، ولأول مرة يعجز حنان الأم فلا تستطيع أن تأسو هذا الكلوم الغائرة التي مزقت من قلب وحيد\ها النياط .
و لكن أي عجب هذا ، بل أية معجزة ؟ لقد استحالت دموع قلبه إلى شعر شفيف رفاف ، حقا أن الألم هو أنبع ما في الحياة من قيم ، فلقد هجر الينابيع الرافدة في أعماقه ، و تنفست عذابات هذا القلب المنزوف في أجواء فيها روحانية ، و فيها نقاء ، حتى لتحلق فيها أرواح السماء ، و تطيب للمحزون فيها نفثات السلوان .
لقد زفر الشاعر زفرته العبقرية في " ديوان التأملات " و عاش بافكر و القلب و الروح زمنا مديدا مع طيف حبيبته في شخص " الفير " عروس هذا الديوان
و هكذا خلد الحب شاعر الجمال و الاحساس و الوجدان ، فابى الشاعر بدوره إلا أن يخلد هذا الحب شعرا عبقريا حيا على مدى القرون و الأجيال