اختلاف آراء النسوية بشأن الجنسانية
مقدمة
تُعدّ الجنسانية من أكثر القضايا إثارةً للجدل داخل الفكر النسوي، إذ تنقسم الحركات النسوية حولها إلى تيارات متباينة جذريًا، ما يعكس التعقيد العميق لهذا المفهوم وتشابكاته الاجتماعية والثقافية والسياسية. ففي الوقت الذي تعتبر فيه بعض النسويات أن التعبيرات الجنسية التقليدية، خصوصًا في صناعة الجنس، ما هي إلا أدوات لتكريس الهيمنة الذكورية، ترى أخريات أن الجنسانية قد تكون ساحةً للتحرر وتمكين المرأة من استعادة سيطرتها على جسدها ورغباتها. وقد أفضى هذا التباين إلى ما يُعرف بـ"حروب الجنس النسوية"، التي شكّلت لحظة مفصلية في تطور الحركة النسوية من موجتها الثانية إلى الثالثة. يهدف هذا البحث إلى تحليل هذه الخلافات، من خلال استعراض أبرز التيارات النسوية ومواقفها من قضايا الجنسانية، لا سيما المواد الإباحية، الدعارة، والـBDSM، والتعبير الجنسي الأنثوي.
أولًا: النسوية الراديكالية والنقد الحاد للجنسانية المعولمة
تتبنى النسوية الراديكالية موقفًا ناقدًا بشدة تجاه ما تعتبره تسليعًا للجسد الأنثوي، ولا سيما في صناعة الجنس. وترى نسويات بارزات مثل أندريا دوركين وكاثرين ماكينون أن المواد الإباحية تمثل مظهرًا من مظاهر العنف الجنسي البنيوي ضد النساء. بحسب هذا الاتجاه، فإن كل تمثيل للجنس ضمن منطق السوق ينطوي على إخضاع للمرأة، حتى وإن بدا طوعيًا أو محايدًا. لقد طالبت هؤلاء النسويات بتجريم المواد الإباحية، واعتبرنها أداة لترسيخ الهيمنة الذكورية وإعادة إنتاج التمييز الجنسي عبر الخيال المرئي.
ثانيًا: حروب الجنس النسوية – لحظة انقسام وتحوّل
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، اشتدّ الصراع داخل الحركة النسوية بين المعسكرين: المناهض للمواد الإباحية، والمؤيد للجنس. وقد بلغ هذا الخلاف ذروته خلال مؤتمر بارنارد للجنسانية عام 1982، حين مُنعت النسويات المناهضات للإباحية من المشاركة في التنظيم، مما أدى إلى احتجاجات موازية. عُرفت هذه الفترة باسم "حروب الجنس"، وأسهمت في إعادة تشكيل المشهد النسوي، حيث مهّدت الطريق لصعود خطاب نسوي أكثر تنوعًا وتسامحًا مع الاختلافات الجنسية، خاصة في الموجة النسوية الثالثة.
ثالثًا: النسوية المؤيدة للجنس – الجنسانية كأداة للتحرر
على الجانب الآخر، ظهرت تيارات نسوية تدافع عن الجنسانية وتعتبرها فضاءً للتمكين، ما دام يُمارس باختيار حر. تقود هذا التيار شخصيات مثل غايل روبين، باتريك كاليفيا، وإيلين ويليس. تُعارض هؤلاء النسويات مقولات الرقابة والتجريم، ويرين أن المواد الإباحية – أو على الأقل بعض أنواعها – يمكن أن تُمثل تعبيرًا عن الرغبات الأنثوية، بل وعن الهيمنة الجنسية النسوية في بعض الحالات. وتُشدّد هذه المدرسة على ضرورة التفريق بين التمييز الجنسي الحقيقي وبين التعبير الجنسي الطوعي.
كما ظهرت اتجاهات نسوية تدعو إلى إصلاح صناعة الجنس، وليس إلى حظرها، عبر دعم "الإباحية النسوية" التي تراعي قيم الاحترام، التنوع، وتمثيل الرغبة النسائية بشكل صادق وغير عنيف.
رابعًا: النسوية والموقف من الرقابة
يطرح الخطاب النسوي المؤيد للجنس نقدًا للرقابة باعتبارها أداة سلطوية تُستخدم تقليديًا لكبح حرية النساء. وترى منظمات مثل "نسويات من أجل حرية التعبير" أن تجريم المواد الإباحية لا يحمي النساء، بل يكرس ثقافة التستر والوصم. وتستدل هذه الحركة على قمع التعبير الجنسي عبر التاريخ، من حظر كتابات مارغريت سانغر حول تحديد النسل إلى الرقابة على أدبيات المثليات والنساء المتحررات جنسيًا. وعليه، تطالب هذه النسويات بفصل النقاش حول العنف الجنسي عن الرقابة الأخلاقية أو القانونية.
خامسًا: تعقيدات الموقف النسوي المعاصر
تُظهر الدراسات الحديثة أن الموقف النسوي من الجنسانية لا يمكن اختزاله في ثنائية "مناهض/مؤيد"، بل هو طيفٌ متنوع. إذ تتقاطع هذه الآراء مع خلفيات ثقافية، وتجارب فردية، وسياسات الهوية (الجندر، العرق، الطبقة). فبعض النسويات ينتمين إلى معسكر "النقد الأخلاقي" دون أن يُطالبن بالرقابة، بينما تُعبر أخريات عن دعم مشروط للمواد الإباحية، شريطة تمثيل النساء بشكل عادل ولائق. وتشير هذه المواقف إلى تحوّل من الخطابات الأحادية إلى خطاب نقدي تعددي أكثر حساسية للسياق.
خاتمة
يعكس الانقسام النسوي حول الجنسانية تعددية الفكر النسوي ذاته، ورفضه للقولبة أو الهيمنة الواحدة على فهم الجندر والرغبة. فمن جهة، يُسلط النقد الراديكالي الضوء على الممارسات القمعية التي تُمارس باسم الجنس، بينما يُذكّرنا التيار المؤيد للجنس بإمكانية قلب أدوات القمع إلى وسائل للتحرر. إن هذا التنوع لا يُعد نقطة ضعف، بل علامة على حيوية الحركة النسوية وقدرتها على مواكبة التغيرات الاجتماعية والثقافية. غير أن هذا الجدل يبقى مفتوحًا، ويطرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين الحرية، الجسد، والقيم الأخلاقية في عالم لا يزال مشبعًا بالسلطوية الأبوية.
المراجع
1. Dworkin, Andrea. Pornography: Men Possessing Women. Plume, 1989.
2. MacKinnon, Catharine A. Only Words. Harvard University Press, 1993.
3. Rubin, Gayle. "Thinking Sex: Notes for a Radical Theory of the Politics of Sexuality." Pleasure and Danger, edited by Carole S. Vance, Routledge, 1984.
4. Willis, Ellen. No More Nice Girls: Countercultural Essays. Wesleyan University Press, 1992.
5. Taormino, Tristan, et al. The Feminist Porn Book: The Politics of Producing Pleasure. The Feminist Press, 2013.
6. Dines, Gail. Pornland: How Porn Has Hijacked Our Sexuality. Beacon Press, 2010.
7. “Feminists for Free Expression.” https://ffeusa.org
8. Brownmiller, Susan. Against Our Will: Men, Women, and Rape. Simon and Schuster, 1975.