رأس البر: المصيف الذي هرب منه الجميع

رأس البر: المصيف الذي هرب منه الجميع
إذا كنت تحب معاكسة البنات، وتكره الناموس وجهل الباعة الجائلين، وتؤمن أن الوقت قد ذهب ولم يعد، فلا تفكر في الذهاب إلى رأس البر. شجرة الدر هي من أدخلت رأس البر إلى التاريخ؛ كانت تأتي للاستحمام فيه قادمة من دمياط، حيث قضت فترة طويلة من حياتها. لكنها، لو كانت بيننا اليوم، لهربت من هذا المصيف الذي لم يعد كما كان. لقد هرب الناس هنا من البيوت، من السوق، من الضجيج، ومن المقاهي البلدية التي لم تعد تسليهم. ثلاثة أرباع المصطافين غادروا، وبقي الربع الأخير يقاوم الناموس بشجاعة. تقع رأس البر في موقع شاعري بديع؛ حيث يلتقي النيل العذب بموجه الأحمر، مع البحر المالح وموجه الأزرق، في مشهدٍ فريد لا تراه إلا هنا. إنها جزيرة دمياط بحق. بدأت قصة رأس البر كمصيف على يد سيدة يونانية منذ سبعين عامًا، هربت إليه طلبًا للهدوء. واليوم، يزوره أكثر من 70 ألف شخص في شهري يوليو وأغسطس، رغم كل ما حلّ به من فوضى. لكن لا تتوقع أن ترى بيتًا من الطوب والإسمنت، فكل البيوت هنا عششٌ من البوص، متلاصقة إلى حد أنك تسمع همسات الجيران وكأنهم في سريرك. ويصر الدمايطة على هذا الطابع المعماري، فهو ـ في رأيهم ـ يخفف الحرارة، ويمنع الناموس، والأهم: أنه خفيف الحمل، يسهل تفكيكه مع نهاية الموسم، لتتحول المدينة إلى أطلال شتوية موحشة. نظام العشش هذا منح رأس البر طابعًا من البساطة والحرية، فالعائلات تتعارف خلال دقائق، والخصوصية معدومة. لا مكان هنا للدون جوان ولا لروميو، ولا حتى لساعة يد. الوقت هنا لا يُقاس بالذهب، ولا حتى بالنحاس. الأيام تمضي بلا مواعيد دقيقة، وإن اتفقت مع صديق، فالموعد "حوالي الظهر" أو "في العصرية"، وكفى. الجُربي: شاطئ النيل الذي تفوّق على البحر من غرائب الأمور أن مياه النيل بطميها الأحمر قد حولت رمال البحر البيضاء إلى سوداء ملوثة، بينما حولت مياه البحر المالحة شاطئ النيل إلى مكان صالح للسباحة، أطلق عليه الأهالي اسم "الجُربي" نسبة إلى قرية تطل على هذا الشاطئ. وتستطيع الوصول إليه عبر رحلة ممتعة بمركب صغير، لكنك إن كنت "غشيماً" جديدًا، فسيدفعك المراكبي خمسين قرشًا بسعادة، رغم أن الأجرة الحقيقية لا تتعدى خمسة عشر قرشًا. والطريف أن المراكب تحمل أسماء نجمات السينما: "فاتن"، "هدى سلطان"، "نور الهدى"... الطفطف: وسيلة التنقل العجيبة وسيلة المواصلات الرئيسية هي "الطفطف" ـ عربة جيب صغيرة تجر وراءها قاطرة مزدحمة بالركاب، منهم من يرتدي المايوه ومنهم من يرتدي كامل ملابسه. لا محطات ولا مواعيد، ينتظر الطفطف حتى يمتلئ ثم "يتوكل على الله". وتجد السيدات واقفات على السلالم مثل الرجال، في مشهد لا يخلو من الطرافة. السائق والكمسري والمفتش كلهم من طلاب المدارس والجامعات، يستغلون الصيف للعمل. الليل في رأس البر... وفسفوسة الدمايطة مع حلول الليل، يسطع شاطئ النيل بأنوار الكازينوهات والمقاهي وعربات الحلوى. يتمشى الناس على الشاطئ ويتذوقون ما لذّ وطاب. أما الدمايطة، فمشهورون بالفطائر والحلوى، وأغرب ما يقدمونه هو "الفُسفوس" أو "الفسفوسة": رغيف طويل مخبوز بطريقة خاصة، يقدَّم مع الزبادي أو الجبنة الحلوة. وقد قالت الشاعرة ملك عبد العزيز فيه: قد أكلنا الفطير والفسفوسة ورفضنا أن نأكل البسبوسة لكن هذا الوجه الحالم للمصيف يخفي وراءه أسئلة صاخبة في صدور الناس... لماذا هجره الرواد؟ الناس هنا يتساءلون: أين رواد المصيف الدائمون؟ لماذا اختفوا؟ وهل سألهم أحد عن سبب هجرتهم؟ أين فاتن حمامة؟ كانت تعشق رأس البر، وكانت معظم المراكب تُسمى باسمها، لكنها اختفت، ولم يسألها أحد عن السبب. والموسيقار محمد عبد الوهاب هرب إلى "الهيلتون" أو إلى الإسكندرية، والتابعي استقال من لجنة المصيف وترك البلد. كثيرون غيرهم فعلوا الشيء نفسه. واللواء محمود طاعت، محافظ دمياط، ورث المشاكل بعد شهور من توليه المنصب، واستمع إلى الشكاوى، لكنه لم يكن يملك عصًا سحرية. وعد بموسم أفضل، وربما وعد بذلك أيضًا لموسم بعده، ولا يزال ينتظر. البلدية... الغائبة الحاضرة سكان دمياط يشكون من المجلس البلدي. أما سكان رأس البر، فلا يشكون... لأنهم لا يعلمون أصلًا أن هناك مجلسًا بلديًا. الشوارع قذرة، السيارات تجوب البلاج نفسه، والباعة الجائلون احتلوا المكان، من الموسكي إلى رأس البر، بألعاب الأطفال، والقرط الدمياطي، والمثلجات، والقمصان، وكل شيء بخمسة صاغ. الميكروفونات تصرخ فوق رؤوس المصطافين: إعلان عن فيلم "مجرم في إجازة"، أو مسرحية ليوسف وهبي، أو حفل راقص، أو مسابقة لاختيار ملكة جمال... كل ذلك وأنت تحاول أن تسترخي تحت الشمسية. فندق وناموس... وخيبة تعود إلى فندقك بعد يوم صاخب، لتجد نزلاء جدد يساومون على الأسعار، وينجحون! فتدرك أنك كنت ضحية خدعة الأسعار "المحددة". تحاول أن تنام، لكن الناموس يبدأ حفله الليلي على دمك. وهكذا، تجد نفسك فجأة تفكر في إنهاء الإجازة، والعودة إلى القاهرة أو إلى محافظتك... بأسرع وقت ممكن. وماذا يبقى؟ شيء واحد فقط لن تنساه أبدًا: أكوام الزلط على الشاطئ. لماذا لم تُلقَ في البحر قبل الموسم؟ لماذا لم تُبعد المكعبات عن طريق الناس؟ البلدية تعرف موعد بداية المصيف ونهايته، لكنها لم تتصرف وفق هذا المعرفة. وتمشي شاردًا، تتساءل مع نفسك عن مصير هذا المصيف الذي فقد ثلاثة أرباع زبائنه، ولا يبدو أن أحدًا يسأل: لماذا؟

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال