لحظات الخفاء

حقًا، كنتُ وما زلتُ عصبي المزاج إلى حدٍ بعيد، ولكن لا تظنوا أني مجنون. إنّ المرض هاجم حواسي ولكنه لم يتلفها أو يطمسها. أعيش الآن بحدّة سمعٍ فائقة، حيث أسمع كل الأصوات في السماء وعلى الأرض، حتى الأصوات القادمة من عمق الجحيم.

لحظات الخفاء
لحظات الخفاء

استمعوا إليّ وتأملوا كيف أصبحت نشطًا وهادئًا، وأقدم لكم هذه القصة بكل تفاصيلها.

من المستحيل تحديد اللحظة التي نبتت فيها الفكرة في رأسي، ولكنني، عندما اقتنعت بها، أصبحت ملتصقًا بها ليلاً ونهاراً. لم تكن هناك عقبات، ولم يتدفق الشفق في صدري. أحببتُ تلك الروح الطيبة، فلم يسيء إليّ يوماً، ولم يهينني أبدًا. كانت عيناه هما الوحيد، عين نسر بلون باهت، يحيطها غشاء رقيق. كلما سلطت نظرته عليّ، شعرت بتجمد الدم في عروقي. قررت، تدريجيًا وتدريجيًا، أن أستأصل حياته وأتخلص إلى الأبد من تلك العين.

هنا نصيحة هامة، إن كنتم تعتقدون أنني مجنون، فليس من مصلحة المجانين فهم الأمور، ولكني أؤمن بتقديري لها وحكمتي في التصرف.

لم أكن رحيماً في لحظة ما مع ذلك العجوز كما كنت طوال الأسبوع الذي قتلته فيه. وفي منتصف كل ليلة، كنت أقترب بخطى هادئة من غرفته. أفتح الباب برفق، محملاً ببطارية مغلقة. أدخل الغرفة بحذر شديد، كي لا أقلق نومه. أمضي ساعة كاملة في ترتيب رأسي خلال الثغرة، حتى أرى الرجل نائماً على سريره. هل يمكن لمجنون أن يتمتع بهذا القدر من الحكمة؟

عندما يأكلني النصر في كل ليلة، أشعل البطارية بحذر فائق، لأرى العين تنفتح تدريجياً. وكان من المستحيل أن ألحظ أي ردة فعل، إذ كانت العين مغلقة دائماً. وهكذا، أصبح من المستحيل علي أن أعبر عن فرحتي. ولكن الرجل لم يكن يشعر بتلك النيّة الخفية، ولم يكن يعلم بأفكاري المظلمة.

نضجت تلك الفكرة في خفوت، وكان يبدو أنه سيمهلني. ففي لحظة ما، حرك الرجل في سريره فجأة كالمُلْسوع. ولكني لم أتراجع كما تظنون. كانت الغرفة مظلمة كالقار، والظلام يتجاوب في أرجاءها. النوافذ مغلقة خوفًا من اللصوص، لذا تأكدت أنه لن يرى فتحة الباب. ظللت أوالي فتحها بثبات.

أدخلت رأسي في الفجوة، وكنت على وشك أن أضئ البطارية، عندما انزلق إبهامي على الزر. قفز الرجل العجوز من سريره وصاح: "من هناك!".

فتمسكت بالصمت، لا أنبس ببنت شفة، وبقيت هادئًا ساعة من الزمن، لم أحرك فيها عضلة واحدة. ولكني لم أسمعه يرقد مرة أخرى، بل بقي جالسًا يتسمع، نمامًا كما كنت أفعل أنا ليلة بعد ليلة.

وبعد مدة قصيرة، سمعته يئن في ضيق، وعرفت أنها أه خوف قاتل. لم تكن ألمًا أو حزنًا، بل كانت تمثل ذلك الصوت المكتوم الذي ينبعث من قاع النفس. كنت أعرف هذه الآنة جيدًا، فكانت تتصاعد من قاع صدري في منتصف كل ليلة، حينما ينام العالم.

وبعد أن انتظرته كل هذه المدة، وبكل هذا الصبر دون أن أسمعه يرقد مرة أخرى، قررت أن أضيء البطارية فليلا، قليلاً جداً. فأضأتها بصورة لا تسمح لأكثر من شعاع منفرد – رفيع كحيط العنكبوت – أن يسلط على عين النسر.

كانت العين مفتوحة على اتساعها، فرأيتها بوضوح تام. زرقاء غبية بغشائها الرقيق الذي يجمد نخاع عظمي. ولكني لم أر شيئاً آخر من وجه العجوز أو جسده. وجهت الشعاع بدقة تامة فوق العضو الملعون.

وعندئذٍ، طرق صوت خفيض متتابع كأنه صادر من ساعة مغلفة بالقطة. عرفت هذا الصوت، فهو ضربات قلب الرجل العجوز. ضاعفت هذه الضربات من غضبي، وكانت تزيد بكل دقيقة. أصابني قلق آخر، قد يسمع الصوت أحد الجيران. حانت ساعة الرجل العجوز.

عزمت أمري وأضأت البطارية، ونظرت إلى الغرفة. لم ينتفض الرجل بين يدي إلا مرة واحدة، سرعان ما جذبته إلى الأرض، وكفا عليه السرير الثقيل. عندئذٍ ابتسمت مرحاً، فقد نجح المشروع، ولكن القلب استمر ينبض بضعة دقائق أخرى. غير أنه لم يرعبني هذه المرة، فمن المستحيل أن ينفذ صوته من الحائط.

ثم توقفت الدقات في النهاية - مات الرجل العجوز. أقمت السرير، وفحصت الجثة. نعم، كان ميتاً، ميتًا كالحجر. وعندما وضعت يدي على قلبه لم أجد أثر نبض، فقد كان ميتًا كالحجر. لن تزعجني عينه أكثر من ذلك.

إذا كانت لا تزال تعتقد بي الجنون، فإن هذه الفكرة ستزايلك تماماً عندما أصف لك الاحتياطات الحكيمة التي اتخذتها لإخفاء أثر الجريمة.

كان الليل يتراجع سريعًا، وكنت أعمل صامتًا وبهمة. قدمت ثلاثة رجال قدموا أنفسهم كضباط في الشرطة. فابتسمت، فمما أخاف. دخلوا وفحصوا المنزل، وتركوني أنا أتجول بينهم.

وأخيراً صحت بأعلى صوتي: "إيها الأشرار، لن أحتملكم أكثر من ذلك، لقد قتلته، اخلعوا هذه الألواح الخشبية في هذا المكان، فقد أصمت أذني دقات قلبه الخبيثة!"

العبرة

القصة تكشف عن شعور القاتل بعد ارتكاب جريمته، حيث يتسم بالاضطراب النفسي بعد إتقان تنفيذه للجريمة بدقة. ومع وجود الشرطة، يفقد القاتل رابطة جأشه ويصبح عرضة للكشف. البطل في القصة هو الراوي نفسه، الذي يصف كل تفاصيل الجريمة بدقة، مظهرًا لعقلانيته في كل تصرف. الدافع الرئيسي وراء ارتكاب الجريمة يعود إلى طمعه في ثروة الرجل العجوز الذي كان يحمل سماتٍ سلبية.  تظهر القصة في الختام أنه لا يمكن إخفاء جريمة تمامًا، رغم مهارة المجرم في إخفاء تفاصيل.


مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

2 تعليقات

  1. الكاتب ذو أسلوب واقعي ، وصف الجريمة ، و عبر عنها من خلال الراوي ، يمتاز الأسلوب بالسهوة و الوضوح و القدرة على التحليل

    ردحذف
أحدث أقدم

نموذج الاتصال