عصر الاضطرابات النفسية:
مقاربة نفسية اجتماعية فلسفية
شهد التاريخ الإنساني تحولات عميقة في البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بدءاً من انهيار النظام الإقطاعي وظهور الثورة الصناعية، وصولاً إلى الرأسمالية وما تلاها من أنظمة سياسية واقتصادية مختلفة. هذه التحولات لم تقتصر آثارها على الاقتصاد أو السياسة فحسب، بل امتدت لتصيب الإنسان في أعماقه النفسية، فتجلّت في اضطرابات وانكسارات داخلية لم تكن معروفة بالقدر نفسه في العصور السابقة. وهكذا يمكن القول إننا نعيش اليوم في ما يُسمّى بحق عصر الاضطرابات النفسية.
التحولات الاجتماعية والاقتصادية وميلاد الاضطراب النفسي
كان الفلاح في المجتمع الإقطاعي يعيش حياة بسيطة، يكتفي بالقليل الذي يمنحه له صاحب الأرض، ويشعر – رغم القهر – بنوع من الاستقرار والاطمئنان. لكن مع الثورة الصناعية، هُجرت الأرض، وتكدست المدن بالعمال الباحثين عن رزق، وبدأت معاناة جديدة عنوانها القلق، والتوتر، والاغتراب.
فمثلاً، في إنجلترا القرن التاسع عشر، عانى عمال المصانع من ظروف عمل قاسية: ساعات طويلة تتجاوز 14 ساعة يومياً، وأجور زهيدة، وغياب الرعاية الصحية. هذه البيئة أدّت إلى ظهور أنماط من الاكتئاب والإدمان والانتحار، وهي مظاهر يمكن ربطها ببدايات الوعي النفسي الاجتماعي بالاضطراب.
ومن هنا نشأ علم النفس الحديث، الذي حاول تفسير هذه المعاناة وتقديم أدوات للتخفيف منها.
تعريف الاضطراب النفسي
تشير الإحصاءات العالمية الحديثة إلى أن واحداً من كل ثمانية أشخاص يعاني من شكل من أشكال الاضطراب النفسي. وتتميز هذه الاضطرابات بخلل عميق في التفكير، أو التحكم في الانفعالات، أو السلوك، بما ينعكس على الأداء اليومي للفرد.
ورغم وجود استراتيجيات علاجية ووقائية، إلا أن معظم المصابين لا تتاح لهم الرعاية الفعالة، كما يواجهون الوصم الاجتماعي والتمييز، ما يزيد من معاناتهم ويضاعف آثار المرض.
أبرز الاضطرابات النفسية
1. اضطرابات القلق
أكثرها شيوعاً، وتتمثل في خوف مفرط وقلق دائم.
مثال واقعي: طالبة جامعية تعيش ضغطاً شديداً قبل الامتحانات، لا تنام جيداً، وتصاب بخفقان القلب وتعرّق اليدين كلما دخلت قاعة الامتحان. هذه الأعراض قد تتطور إلى اضطراب قلق عام إن استمرت.
2. الاكتئاب
يتجاوز الحزن العابر إلى حالة مرضية مزمنة.
مثال واقعي: موظف فقد عمله بسبب تسريح جماعي، يدخل في عزلة، يفقد شهيته، ويمتنع عن الأنشطة الاجتماعية، ويبدأ التفكير في جدوى الحياة. هذه الحالة تجسد أعراض الاكتئاب الحاد.
3. الاضطراب ثنائي القطب
تتقلب فيه حالات الفرد بين الاكتئاب والهوس.
مثال واقعي: فنان يعيش فترات من الإبداع الهائل والنشاط المفرط دون نوم، تليها فترات من الانهيار والاكتئاب الحاد، وهو ما يعكس طبيعة هذا الاضطراب.
4. اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)
يظهر بعد التعرض لأحداث صادمة.
مثال واقعي: جندي عاد من الحرب، يعاني من كوابيس متكررة، يتجنب أصوات الألعاب النارية لأنها تذكّره بالمعارك، ويعيش في توتر دائم وكأنه في ساحة قتال.
5. انفصام الشخصية (الفصام)
يتجلى في أوهام وهلوسة واضطراب في التفكير والسلوك.
مثال واقعي: شاب يسمع أصواتاً تأمره بالانعزال، ويعتقد أن جيرانه يتجسسون عليه. هذه الأعراض تعكس الفصام البارانويدي.
6. اضطرابات الأكل
مثل فقدان الشهية العصبي والشره المرضي.
مثال واقعي: مراهقة تتأثر بصور عارضات الأزياء على وسائل التواصل الاجتماعي، فتمتنع عن الأكل بشكل مفرط خوفاً من السمنة، ما يعرّض حياتها للخطر.
7. اضطرابات السلوك الفوضوي والمعادي للمجتمع
تبدأ غالباً في الطفولة، وتتجلى في العناد أو العدوانية.
مثال واقعي: طفل يكرر الكذب والسرقة ويعذب الحيوانات، ثم يتطور سلوكه لاحقاً إلى الاعتداء على الآخرين.
8. اضطرابات نمو الجهاز العصبي
وتشمل التوحد، واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط.
مثال واقعي: تلميذ لا يستطيع التركيز في الدروس، يترك مقعده باستمرار، ويتحدث دون توقف، ما ينعكس على تحصيله الدراسي وعلاقاته الاجتماعية.
العوامل المسببة
تتعدد أسباب الاضطرابات النفسية، ومنها:
• الفقر والعنف الأسري: كحالة أطفال الشوارع الذين يعيشون دون مأوى.
• الحروب والنزاعات: مثل اللاجئين الذين يعانون من فقدان الأهل والوطن.
• التحولات التكنولوجية: إدمان الإنترنت ووسائل التواصل وما تسببه من عزلة.
• عوامل بيولوجية ووراثية: خلل في الناقلات العصبية أو الجينات.
الأمراض النفسية النادرة
منها:
• هوس العشق الشبقي: وهم الحب المرضي.
• متلازمة كابجراس: اعتقاد المريض أن المقربين منه قد تم استبدالهم بآخرين.
• متلازمة ستندال: نوبات هلع عند مشاهدة فن عظيم.
البعد الفلسفي والاجتماعي
يُظهر لنا تاريخ الاضطرابات النفسية أن الإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي، بل هو نتاج شبكة معقدة من العوامل الاجتماعية والثقافية والفكرية. فالاضطراب النفسي ليس مرضاً فردياً فحسب، بل هو انعكاس لأزمات المجتمع برمته. ومن هنا، تصبح الصحة النفسية مرآة لمدى عدالة المجتمع وتوازنه.
يمكن القول إننا نعيش اليوم في عصر تُثقل فيه الاضطرابات النفسية كاهل البشرية. فالمعادلة لم تعد اقتصادية أو سياسية فقط، بل أصبحت نفسية بالدرجة الأولى. ومن ثمّ، فإن الرهان الأكبر للمستقبل يتمثل في الاعتراف بالبعد النفسي كجزء لا يتجزأ من التنمية البشرية، وتوفير استراتيجيات علاجية ووقائية تحمي الفرد من الانهيار وتساعده على استعادة توازنه الإنساني.
<