من السماحة المصرية إلى العنف الصهيوني
قراءة في تجربة يهود الإسكندرية: أبعاد تاريخية ـ اجتماعية ـ نفسية ـ فلسفية
تمهيد
تاريخ يهود الإسكندرية ليس مجرد فصل من سيرة مدينة متوسطية عريقة، بل هو مرآة عاكسة لتجربة مصر في التعامل مع الآخر، بين التعايش والاندماج من جهة، والانفصال والانغلاق من جهة أخرى. فمنذ تأسيس الإسكندرية على يد الإسكندر الأكبر عام 332 ق.م، شكّل اليهود جزءاً من نسيجها الاجتماعي والثقافي، وأسهموا في نشوء اليهودية الهلنستية وترجمة "السبعينية". لكن مسارهم عرف تحولات حادة: من التسامح في ظل الحضارة المصرية المتفتحة، إلى الاضطهاد في العصر الروماني والبيزنطي، وصولاً إلى صعود الصهيونية في القرن العشرين وما رافقه من قطيعة وجودية مع المجتمع المصري.
هذا البحث يحاول قراءة هذه التجربة من زوايا متعددة: تاريخية واجتماعية ونفسية وفلسفية، مع التركيز على الإسكندرية كمدينة كوزموبوليتية احتضنت اليهود لقرون، قبل أن تنكسر هذه العلاقة مع قيام دولة إسرائيل ووقوع أحداث لافون عام 1954.
الفصل الأول: الإسكندرية الكوزموبوليتية وفسيفساء الهويات
المدينة ـ البرج
الإسكندرية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت فضاءً حضارياً متنوعاً، أشبه بـ"برج بابل حديث" على أرض مصرية. تداخلت فيها لغات وأسواق ومقاهٍ أوروبية وشرقية، مما جعلها مدينة عابرة للثقافات. في هذا السياق، وجد اليهود مكاناً مميزاً، إذ مارسوا التجارة والوساطة المالية، وأداروا مؤسسات اقتصادية مؤثرة.
الطبقات المتباينة
لم يكن يهود الإسكندرية كتلة متجانسة، بل فسيفساء اجتماعية.
• الطبقة الأرستقراطية: ضمت عائلات مثل منشه، أجيون، رولو، قطاوي وسموحة، التي سيطرت على البنوك والعقارات والبورصة.
• اليهود الفقراء: عاشوا في الأحياء الشعبية، ومارسوا الحرف الصغيرة أو عانوا التهميش.
هذا التفاوت الطبقي عمّق الانقسام الداخلي للطائفة، بين نخبة مدمجة في دوائر النفوذ الأوروبي، وقاعدة مهمشة أقرب إلى المجتمع المصري الشعبي.
الفصل الثاني: عائلة منشه ونموذج الصعود اليهودي
الجذور والسلالات
تمثل عائلة منشه مثالاً صارخاً على الصعود الاجتماعي والاقتصادي لليهود في مصر الحديثة. بدأت بصراف متواضع في حارة اليهود بالقاهرة، ثم تحولت إلى مؤسسة مالية كبرى بالإسكندرية، امتدت أنشطتها إلى الزراعة والمصارف الدولية.
النفوذ المالي والسياسي
أقامت العائلة بنوكاً وشركات وأسهمت في مشاريع تعليمية وصحية، لكنها واجهت اتهامات بالانفصال عن محيطها المصري والارتباط بالمصالح الأوروبية الاستعمارية.
البعد النفسي ـ الاجتماعي
من منظور نفسي، يمكن فهم سلوك هذه النخب باعتباره محاولة لبناء "قوقعة آمنة" تحميها من قلق الاندماج، وتمنحها شعوراً بالتفوق الطبقي والثقافي. هذا القلق النفسي، الذي يتأرجح بين الانتماء والانفصال، سيجد مخرجه لاحقاً في تبني الصهيونية كهوية جديدة.
الفصل الثالث: المؤسسات الدينية والتعليمية كحامل للهوية
المدارس كأداة للتشكيل
أسست الطائفة مدارس متعددة مثل مدارس أجيون ومدرسة الاتحاد اليهودي ومدرسة تلمود توراه. هذه المدارس لم تكن مجرد فضاءات تعليمية، بل أدوات لإعادة إنتاج الهوية اليهودية بشكل مغلق، يُمهد للانخراط في شبكات المال أو في المشروع الصهيوني.
المعابد كذاكرة روحية
بلغ عدد معابد الإسكندرية في القرن التاسع عشر نحو 29، أبرزها معبد الياهو هانبي. لم تكن المعابد مراكز دينية فحسب، بل فضاءات اجتماعية وثقافية تُرسخ الانعزال وتعيد إنتاج "ذاكرة الطائفة".
الفصل الرابع: بين الاندماج والانفصال
إغراءات الأرستقراطية
عاشت النخبة اليهودية حياة مبهرة، بين نوادي النخبة الأوروبية وفنادق مثل سيسل، حيث عُقدت الصفقات المالية الكبرى. هذه الحياة جعلتهم أقرب إلى الأوروبيين منهم إلى المصريين.
الهامش المنسي
على النقيض، ظل اليهود الفقراء على هامش المجتمع. هذا التناقض الداخلي يثير سؤال العدالة الاجتماعية: هل كانت الطائفة وحدة متماسكة، أم فسيفساء متناقضة؟ ضعف التضامن الداخلي جعلها أكثر عرضة للتحولات السياسية بعد ثورة يوليو 1952.
الفصل الخامس: الصهيونية والقطيعة مع مصر
البذور الأولى
مع مطلع القرن العشرين، ظهر النشاط الصهيوني بالإسكندرية، حيث لعبت شخصيات مثل فيلكس دي منشه دوراً بارزاً في دعم الصهيونية والتواصل مع قادتها كحاييم وايزمان. تشكلت لجان صهيونية ونُظمت مؤتمرات، وبدأت عملية انفصال نفسي وسياسي عن المجتمع المصري.
البعد الفلسفي ـ النفسي
الصهيونية مثلت حلاً للتوتر بين "الهوية المزدوجة": يهودي بالدين ومصري بالوطن. هذا القلق النفسي وجد متنفسه في مشروع قومي يَعِدُ بالاستقلال. لكن هذا "الحل" كان عنيفاً، لأنه استند إلى مشروع استيطاني قائم على نفي الآخر وإقصائه.
الفصل السادس: من الازدهار إلى الصدام
الحرب العالمية الثانية والتحولات
شهدت سنوات الحرب العالمية الثانية ازدهاراً مالياً لليهود، لكن هذا الازدهار ترافق مع تنامي الوعي الوطني المصري، وتصاعد الشكوك تجاه الجاليات الأجنبية.
عمليات لافون (1954)
جاءت فضيحة لافون لتكشف الوجه الخفي: تورط بعض اليهود في عمليات تجسس وتفجير ضد المصالح البريطانية والأمريكية، بهدف إضعاف مصر. مثّل هذا الحدث نقطة فاصلة أنهت صورة "اليهودي المصري المسالم"، ورسخت صورة "اليهودي الصهيوني المتآمر".
الفصل السابع: فلسفة التعايش والانفصال
من زاوية فلسفية، يمكن النظر إلى تجربة يهود الإسكندرية كجدلية بين السماحة المصرية التي استوعبتهم قروناً، والعنف الصهيوني الذي استدرجهم إلى مشروع استعماري. التعايش كان ممكناً طالما ظلّت الهوية اليهودية منفتحة على الوطنية المصرية. أما حين تحولت إلى أداة سياسية عابرة للوطن، انقطع خيط الاندماج وحلّ محله الانفصال.
الخاتمة: درس التاريخ
تجربة يهود الإسكندرية تكشف أن مصر قدمت نموذجاً للتسامح والتعددية، لكن الصهيونية قوضت هذا النموذج وحولت الطائفة إلى عنصر استيطاني غريب. الدرس الأعمق هو أن التعددية لا تنهار بسبب الاختلاف، بل بسبب الانغلاق والانفصال.
إن أي جماعة، حين تختار العيش داخل "قوقعة" مغلقة، تتحول من عنصر إثراء حضاري إلى عنصر صراع. وما جرى في الإسكندرية شاهد على أن الفلسفة الحقيقية للتعايش تقوم على الانفتاح والاندماج، لا على العزلة والانغلاق.
المراجع
مراجع عربية
1. عبد الوهاب المسيري، اليهود واليهودية والصهيونية، القاهرة: دار الشروق، 1999.
2. محمد أبو الغار، يهود مصر في القرن العشرين، القاهرة: دار الهلال، 2004.
3. إبراهيم عبد المجيد، الإسكندرية في غيمة، القاهرة: دار العين، 2012.
4. عبد العزيز الشناوي، اليهود في مصر القديمة والحديثة، القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1986.
مراجع أجنبية
1. Gudrun Krämer, The Jews in Modern Egypt, 1914–1952, University of Washington Press, 1989.
2. Joel Beinin, The Dispersion of Egyptian Jewry: Culture, Politics, and the Formation of a Modern Diaspora, University of California Press, 1998.
3. Michael Laskier, The Jews of Egypt: 1920–1970, NYU Press, 1992.
4. André Raymond, Alexandrie au XIXe siècle, Paris: Maisonneuve & Larose, 1998.
من السماحة المصرية إلى العنف الصهيوني قراءة في تجربة يهود الإسكندرية: أبعاد تاريخية ـ اجتماعية ـ نفسية ـ فلسفية
الناشر :مدونة فكر أديب
-