الدعارة بين النسوية والنقد الاجتماعي
تُعَدّ قضية الدعارة من أكثر الموضوعات إشكالية في النقاشات النسوية والاجتماعية المعاصرة، إذ تتقاطع فيها قضايا السلطة، والاقتصاد، والجنس، والحرية الفردية. وتتراوح المواقف النسوية من الدعارة بين الرفض التام لها بوصفها شكلًا من أشكال الاستغلال والعنف الممنهج ضد المرأة، وبين تأييدها باعتبارها خيارًا شخصيًا أو شكلًا من أشكال العمل المشروع الذي ينبغي حمايته قانونيًا واجتماعيًا.
تختلف المواقف النسوية من الدعارة بين التيارات المختلفة، حيث يرى تيار «النسوية الراديكالية» أنها شكل من أشكال استعباد المرأة وتسليع جسدها وتعزيز للعنف الجنسي، بينما يرى تيار آخر «النسوية الإيجابية جنسياً» أنها اختيار شخصي طالما تم برضا الطرفين، ولا يتعارض مع استقلالية الجسد ومبدأ «جسدي، اختياري». من الناحية الاجتماعية، تُفسّر الدعارة بأنها ظاهرة وظيفية لترويض السلوك الجنسي وتلبية احتياجات جنسية لبعض الرجال، مما قد يقلل من الاعتداءات الجنسية على نساء أخريات.
الموقف النسوي من الدعارة
• النسوية الراديكالية (Anti-pornography feminism):
o النقد: تنتقد الدعارة والعمل الجنسي باعتبارهما انتهاكًا شاملًا للمرأة وتسليعًا لجسدها
o الاعتقاد: ترى أن الدعارة ترسيخ لدونية المرأة وتبعية الرجال، وتساهم في تعميق الوصمة ضد النساء العاملات في الجنس.
• • النتيجة: يرى هذا التيار أن الدعارة تساهم في زيادة العنف الجنسي ضد المرأة.
• النسوية الإيجابية جنسياً (Sex-positive feminism):
• الموقف: ترى أن العمل الجنسي قد يكون خيارًا شخصيًا مقبولًا، ولا يتعارض مع مبدأ استقلالية الجسد «جسدي، اختياري»
• الشروط: يُعتبر مقبولًا فقط إذا كان طوعيًا ويتم بموافقة الطرفين، مما يحقّق الحرية الجنسية ويحرّر المرأة من الرقابة الأبوية.
النقد الاجتماعي للدعارة
• الوظيفة الاجتماعية (Functionalism):
o الهدف: ترى أن الدعارة لها وظائف اجتماعية تعمل على التحكم في السلوك الجنسي أو توجيهه.
• • الوظيفة: تُلبّي احتياجات الرجال الذين قد لا يجدون نساءً متاحًا لهن، وتخفف الضغط من على الأفراد غير القادرين على المشاركة الجنسية.
• • النتيجة: يرى أنصار هذا الرأي أن الدعارة قد تحد من العنف الجنسي والاغتصاب والاعتداء الجنسي.
• التمييز الجنسي والطبقي:
• النقد: تعتبر الدعارة نظام عمل يقوم على التمييز بين الجنسين والتمييز العنصري، خاصة في الحالات التي تُستغل فيها نساء من خلفيات مهمشة
• الاستغلال: غالبًا ما تُستغل النساء في الدعارة في أسوأ الظروف وبأقل الأسعار، وخاصة النساء من السكان الأصليين.
أولاً: النسوية المناهضة للدعارة
ترى تيارات نسوية عديدة أن الدعارة ليست خيارًا حرًّا، بل نتيجة للنظام المجتمعي الذكوري الذي يعزز سيطرة الرجل على جسد المرأة.
• تعتبر الدعارة شكلًا من أشكال العنف ضد المرأة، يرسخ النظرة النمطية إليها كسلعة جنسية.
• تؤكد أصوات بارزة مثل: كاثلين باري، وميليسا فارلي، وجولي بينديل، وكاثرين ماكينون أن الموافقة في سياق الدعارة لا تُعَدّ موافقة حقيقية، بل هي في الغالب نتيجة إكراه اقتصادي أو اجتماعي.
• تُشبِّه بعض الناشطات الدعارة بالعبودية الحديثة، حيث يتحول المال إلى أداة إجبار بديلة عن القوة البدنية.
ثانياً: النسوية المؤيدة للعمل الجنسي
على الجانب الآخر، يرى مؤيدو الدعارة أن من حق المرأة (وكذلك الرجل) أن يختار هذا النوع من العمل بحرية، شريطة التمييز بين:
• الدعارة الطوعية التي تنطلق من قرار فردي.
• الدعارة القسرية التي ترتبط بالاتجار بالبشر والإكراه.
في هذا المنظور، يُنظر إلى الدعارة باعتبارها عملًا مشروعًا يجب تقنينه وحماية ممارسيه من العنف وسوء المعاملة، مع ضرورة إلغاء القوانين التي تُجرِّم الدعارة الطوعية.
ثالثاً: التأطير النظري للنقاش
يشير كل من نيومان ووايت في كتاب المرأة، والسلطة، والسياسة العامة (2012) إلى أن المواقف النسوية، رغم تباينها، تتفق على ثلاث نقاط أساسية:
1. رفض العقوبات الجنائية المفروضة على النساء العاملات بالجنس.
2. اعتبار الموافقة الحرة شرطًا أساسياً لأي علاقة جنسية.
3. الإقرار بأن العاملات بالجنس يعانين من الإكراه الاقتصادي والعنف، وأن السياسات الحالية لا توفر الحماية الكافية لهن.
ويُبرز المؤلفان ثلاثة مناظير رئيسية:
• منظور العمل الجنسي المشروع.
• منظور مناهضة الدعارة.
• المنظور الخارج عن القانون، الذي يرى في الدعارة تعبيرًا عن الحرية الجنسية أو بوابة لحياة مهنية بديلة.
رابعاً: الإكراه والفقر كعوامل حاسمة
تشير الدراسات إلى أن الغالبية الساحقة من العاملات بالجنس يأتين من الطبقات المهمشة اقتصاديًا واجتماعيًا، حيث تُجبرهن الظروف القاسية على هذا المسار.
• الفقر، وانخفاض التعليم، والانتماء إلى أقليات عرقية أو إثنية، كلها عوامل تدفع النساء نحو الدعارة.
• تؤكد كاثرين ماكينون أن المال في هذا السياق ليس اختيارًا، بل شكل من أشكال الإكراه.
• توضح الدراسات أن نسبة كبيرة من العاملات بالدعارة يرغبن في ترك المهنة، ما يعكس طابعها القسري.
خامساً: الآثار النفسية والاجتماعية طويلة المدى
يحذر النسويون المناهضون للدعارة من آثارها السلبية العميقة على النساء، والتي تشمل:
• الصدمة النفسية، والاكتئاب، والقلق.
• إدمان المخدرات والكحول كوسيلة للهروب من الضغوط.
• ارتفاع نسب إيذاء النفس والانتحار بين العاملات بالجنس.
وتؤكد أندريا دوركين أن الدعارة ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل هي "إساءة مباشرة لجسد المرأة" تنزع منها إحساسها بالاكتمال الإنساني.
سادساً: الدعارة في السياقات العالمية
1. آسيا: تايلند نموذجًا
عام 1997، أشارت الإحصاءات إلى أن الدعارة في تايلند كانت تضم نحو 20,000 امرأة وطفل، وتُسهم بحوالي 11% من الدخل القومي. وهو ما جعلها موردًا اقتصاديًا حاسمًا رغم تناقضه مع البنية الاجتماعية التقليدية.
2. أفريقيا: تهريب البشر والفقر
في العديد من الدول الإفريقية، يُسهِّل غياب التسجيل الرسمي عند الولادة عمليات تهريب النساء والأطفال عبر الحدود، ما يجعلهم عرضة للاستغلال. ويؤدي ذلك إلى إضعاف الاقتصاد وزيادة الهشاشة الاجتماعية، لتصبح الدعارة أزمة مضاعفة بين المحلي والعالمي.
خاتمة
يتضح من مجمل النقاش أن قضية الدعارة ليست مجرد جدل نسوي حول الحرية أو الاستغلال، بل هي مسألة معقدة متعددة الأبعاد، تتشابك فيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والفلسفية.
• من جهة، تعكس الدعارة استمرار أنماط السيطرة الذكورية وعدم المساواة الاجتماعية.
• ومن جهة أخرى، تثير أسئلة فلسفية حول حدود الحرية الفردية، وحق المرأة في التحكم بجسدها.
وبين الموقفين، يبقى التحدي الأكبر هو صياغة سياسات عادلة توفر الحماية للعاملات بالجنس، وتفتح في الوقت ذاته بدائل حقيقية تعزز كرامتهن الإنسانية.
أولاً: مراجع عربية
1. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002.
2. نوال السعداوي، المرأة والجنس، دار الآداب، بيروت، 1972.
3. فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي: النبي والنساء، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1987.
4. رضوى عاشور وآخرون (تحرير)، المرأة العربية والبحث عن الذات، دار الأهالي، دمشق، 1990.
5. محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989.
6. أحمد زايد، علم الاجتماع وقضايا المرأة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995.
7. إلهام عبد الكريم، "الدعارة بين التجريم والتقنين: قراءة في القانون والمجتمع"، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، العدد 42، 2015.
ثانياً: مراجع أجنبية
1. Kathleen Barry, Female Sexual Slavery, New York University Press, 1984.
2. Melissa Farley, Prostitution, Trafficking, and Traumatic Stress, Routledge, 2003.
3. Julie Bindel, The Pimping of Prostitution: Abolishing the Sex Work Myth, Palgrave Macmillan, 2017.
4. Catharine A. MacKinnon, Are Women Human? And Other International Dialogues, Harvard University Press, 2006.
5. Andrea Dworkin, Pornography: Men Possessing Women, Perigee Books, 1981.
6. Ronald Weitzer, Sex for Sale: Prostitution, Pornography, and the Sex Industry, Routledge, 2010.
7. Ronald J. Weitzer, “The Sociology of Sex Work,” Annual Review of Sociology, Vol. 35, 2009, pp. 213–234.
8. Martha C. Nussbaum, “Whether from Reason or Prejudice: Taking Money for Bodily Services,” The Journal of Legal Studies, Vol. 27, No. S2, 1998, pp. 693–724.
9. Carole Pateman, The Sexual Contract, Stanford University Press, 1988.
10. Newman, Jacquetta A., and Linda A. White, Women, Politics, and Public Policy, Oxford University Press, 2012.