أساطير الأزتك:
قراءة اجتماعية – نفسية – فلسفية
المقدمة
تُعد الأساطير مرآةً للوعي الجمعي للشعوب، إذ تكشف عن تصوراتهم للكون والحياة والموت، وتفسر علاقتهم بالطبيعة والآلهة والسلطة. ومن بين أكثر الميثولوجيات إثارة للدهشة والجدل تبرز أساطير الأزتك، تلك الحضارة التي ازدهرت في وسط المكسيك، والتي نسجت رؤيتها للعالم من خلال شبكة معقدة من الطقوس والرموز والقرابين الدموية. وصف حنا عبود ميثولوجيا الأزتك بأنها "ميثولوجيا الأضاحي والانتظار"، إذ ارتبطت فكرة استمرار الكون عندهم بالتضحيات البشرية التي تعيد للطبيعة توازنها المفقود. وهكذا أصبحت الأسطورة وسيلة لفهم قلق الإنسان الأزتكي أمام الزمن والمصير والموت.
أسطورة الخلق والشموس الخمس
يبرز في الأساطير الأزتكية تصور "الشموس الخمس"، وهي أزمنة كونية متعاقبة، ينتهي كل منها بكارثة، ليبدأ عصر جديد. يعكس هذا التصور فلسفة دورية للزمن تقوم على الهدم وإعادة البناء. في العصر الخامس، الذي نعيش فيه بحسب معتقدهم، وُلدت الشمس من تضحيات الآلهة أنفسهم، حيث قفز الإله المتواضع ناناواتل في النار ليصبح الشمس، بينما تبعه تيكواشتكاتل خجلاً ليصبح القمر. هذه الأسطورة تكشف عن جدلية التضحية والقداسة، حيث يتحول الضعف إلى مصدر قوة، وتغدو الفناء وسيلة لاستمرار الوجود.
التحليل النفسي – الاجتماعي
تجسد هذه الأسطورة قلقًا وجوديًا جماعيًا: فالشمس، رمز الحياة، لا تتحرك إلا بدمٍ مسفوك. إن اعتماد الكون على القرابين البشرية يعكس إدراك الأزتك العميق لهشاشة الحياة، ومحاولتهم اليائسة للسيطرة على المجهول عبر طقس دموي جماعي. من الناحية الاجتماعية، ساهمت هذه الطقوس في ترسيخ سلطة الكهنة والمحاربين، إذ غدت الأضاحي أداة للهيمنة والسيطرة.
التحليل الدرامي – الشعري
يظهر المشهد الأسطوري كلوحة درامية: آلهة مترددة أمام ألسنة النار، وصوت الصمت الكوني يترقب من يجرؤ أولاً. يقف ناناواتل، الضعيف والمشوّه، ليتحدى القلق الكوني ويقفز. هنا تتحول الأسطورة إلى قصيدة رمزية عن البطولة في الهامش، وعن قوة التواضع أمام كبرياء العظمة.
أسطورة ويتزيلوبوتشتلي وكويلكسوهكوي
تحكي الأسطورة عن الإلهة كوتليك التي حملت بويتزيلوبوتشتلي دون أب، فثار إخوتُهُ الأربعمئة وقرروا قتلها. لكن الابن المولود حديثًا خرج من رحمها مسلحًا وهزمهم، وقَتَل أخته كويلكسوهكوي ورمى جسدها من الجبل.
هذه الأسطورة تجسد عنف الميلاد الكوني، حيث يولد النظام من رحم الصراع، والشمس (ويتزيلوبوتشتلي) لا تثبت وجودها إلا بدماء إخوتها.
البعد النفسي
تعكس القصة صراع الأنا مع الظلال: فويتزيلوبوتشتلي يمثل طاقة الحياة والشمس، بينما إخوة الأم يمثلون قوى التهديد الداخلي. قتل الأخت وتقطيعها هو إسقاط رمزي لضرورة الانفصال عن الماضي العائلي والأرضي لتحقيق السيادة.
البعد الاجتماعي
تبرز الأسطورة دور الحرب والدم كأساس للهوية الأزتكية. فكما انتزع ويتزيلوبوتشتلي النصر بالقتل، كذلك كان على الأزتك أن ينتزعوا وجودهم بالمعارك والقرابين. الأسطورة إذن خطاب سياسي – ديني يشرعن العنف باعتباره شرط البقاء.
مقارنة مع أساطير أخرى
• الأساطير المصرية: أسطورة إيزيس وأوزوريس تقوم على إعادة الحياة بالحب والبعث، بينما الأزتك يؤكدون استمرار الكون بالدم والذبح. الأولى تُعلي قيمة المحبة والخصب، والثانية تُكرّس الموت بوصفه طاقة للحياة.
• الأساطير الإغريقية: صراع كرونوس وأبنائه أو زيوس والتيتان يشبه صراع ويتزيلوبوتشتلي مع إخوته، لكن الفرق أن الإغريق جعلوا الانتصار عقلانيًا وتدبيريًا، بينما الأزتك صاغوه بلغة الدم والقرابين.
• الأساطير السومرية: ملحمة جلجامش تسعى إلى الخلود الفردي، بينما أساطير الأزتك تؤكد على الخلود الجمعي عبر التضحية والطقس.
• أساطير المايا : كتاب "بوبول فوه": يروي قصص الخلق عند المايا، حيث خُلق البشر أولًا من الطين ثم الخشب ثم الذرة (المقدسة). الذرة ليست مجرد غذاء بل جوهر وجود الإنسان.
• ثنائية الموت والحياة: الأبطال التوأمان "هوناهبو وإكسلاباك" نزلوا إلى عالم الموتى (شيبالبا) وخاضوا مغامرات ضد آلهة الظلام، ثم عادوا للحياة.
• البعد النفسي: يظهر في فكرة الخلق الفاشل المتكرر حتى الوصول إلى الخلق الكامل (من الذرة)، بما يعكس قلق الإنسان من هشاشته وسعيه الدائم للكمال.
• البعد الاجتماعي: الأسطورة جعلت الذرة محور الهوية الزراعية للمايا، فارتبط الدين بالزراعة والطقوس الجماعية.
• الأساطير الهندوسية : التعدد والدورات: الكون عند الهندوس يمر بدورات زمنية (يوغا)، تتجدد عبر الدمار وإعادة الخلق.
• الثالوث المقدس: براهما (الخلق) – فيشنو (الحفظ) – شيفا (التدمير). هذا الثالوث يعكس جدلية الحياة والموت والتجدد.
• الكرمة والتناسخ: مصير الروح لا يتحدد بالقرابين بل بأفعال الفرد (كرمة) التي تحدد تجسده القادم.
• البعد النفسي: الخوف من دورة الولادة والموت (سامسارا) يقابله السعي إلى التحرر (موكشا).
• البعد الاجتماعي: الأسطورة كرست نظام الطبقات (الكاست)، حيث ارتبطت كل طبقة بوظائف أسطورية ودينية محددة
• أساطير الأزتيك : الخلق والدماء: تقوم أساطير الأزتيك على فكرة التضحية بالدم بوصفها شرطًا لبقاء الكون. فالإله "هويتزيلوبوتشتلي" وإله الشمس يحتاجان إلى دماء البشر ليواصلوا رحلتهم.
• الدورة الكونية: تصور الأزتيك العالم في شكل دورات شمسية متكررة، تنتهي كل واحدة بكارثة كونية (طوفان، زلازل، نار...).
• البعد النفسي: الدم هنا ليس مجرد مادة بيولوجية، بل رمز للحياة والقوة والهوية الجماعية. تقديمه للإله هو نوع من تطهير النفس والخوف من الفناء.
• البعد الاجتماعي: كرست الأسطورة ثقافة الحرب عند الأزتيك، حيث صار الأسرى يُستخدمون كقرابين دينية، مما جعل الأسطورة أداة سياسية لبقاء الإمبراطورية.
فلسفة الأسطورة
تكشف أساطير الأزتك عن تصور تراجيدي للوجود: العالم هشّ، والإنسان مجرد أداة في لعبة كونية أكبر. لكن في هذا التصور نجد أيضًا بعدًا فلسفيًا عميقًا: فالحياة لا تستمر إلا من خلال وعي الإنسان بفنائه واستعداده للتضحية. إنها فلسفة الموت كشرط للحياة، والفناء كجسر نحو الاستمرار.
أوجه التشابه
1. الدورات الزمنية: الأزتيك (الشمس الخامسة)، المايا (عصور متتابعة للخلق)، الهندوس (اليوغا). كلها ترى الكون في حركات دائرية لا خطية.
2. الموت شرط للحياة: التضحية عند الأزتيك، نزول الأبطال إلى عالم الموتى عند المايا، دور شيفا المدمّر عند الهندوس.
3. الهوية الجماعية: الأسطورة ليست مجرد خيال، بل أداة لشرعنة النظام الاجتماعي (الحرب عند الأزتيك، الزراعة عند المايا، الطبقات عند الهندوس).
4. البعد النفسي: تعكس الأساطير قلق الإنسان من الفناء، وحاجته لربط حياته بقوة عليا تحفظ التوازن الكوني.
أوجه الاختلاف
1. مفهوم التضحية:
o الأزتيك: التضحية البشرية جوهرية لاستمرار الكون.
o المايا: التضحية موجودة لكنها رمزية وزراعية (الذرة).
o الهندوس: لا دماء بشرية، بل الطقوس (اليوغا، العبادة، التأمل) والكرمة.
2. طبيعة الإله:
o الأزتيك: آلهة متعطشة للدماء، متقلبة.
o المايا: آلهة قريبة من البشر، تخوض مغامرات وتفشل وتنجح.
o الهندوس: آلهة كونية شاملة (براهما، فيشنو، شيفا) ذات طابع فلسفي عميق.
3. المصير الفردي:
o الأزتيك: يذوب الفرد في الجماعة والتضحية.
o المايا: الفرد جزء من دورة الطبيعة (الذرة).
o الهندوس: مصير فردي شخصي تحدده أفعاله (الكرمة).
مقارنة فلسفية-نفسية
• أساطير الأزتيك تمثل القلق الجمعي من الفناء، حيث يبقى الكون فقط عبر نزيف الدم.
• أساطير المايا تعكس البحث عن التوازن الزراعي والطبيعي، فالفشل والنجاح في الخلق يحاكي صراع الإنسان مع الطبيعة.
• الأساطير الهندوسية تجسد القلق الفردي من samsara، أي دوران الميلاد والموت، وحاجة الروح للتحرر.
خاتمة
تكشف المقارنة أن هذه الحضارات الثلاث، رغم تباعدها الجغرافي والثقافي، اشتركت في رؤية الكون كدورة أبدية قائمة على الموت والحياة. لكنها اختلفت في وسيلة ضمان استمرارها: الدم (الأزتيك)، الذرة والزراعة (المايا)، الكرمة والتحرر الروحي (الهندوسية). وهذا يبرز أن الأسطورة ليست مجرد حكاية بل مرآة لوعي الجماعة بوجودها ومخاوفها وغاياتها.
إن أساطير الأزتك ليست مجرد حكايات قديمة، بل هي نصوص رمزية عكست وعي شعب عاش في قلب القلق الكوني، فجعل من التضحية سبيلًا للسيطرة على المصير. إنها أساطير مشبعة بالدم والعنف، لكنها تحمل أيضًا عمقًا شعريًا وفلسفيًا يجعلها تقف جنبًا إلى جنب مع أساطير الحضارات الكبرى. وبينما تُمجّد بعض الأساطير الحب أو الحكمة أو العدالة، اختار الأزتك أن يجعلوا الموت معبرًا إلى الخلود.
المراجع
• عبود، حنا. المعجم المسرحي. دار المدى، دمشق، 1995.
• León-Portilla, Miguel. Aztec Thought and Culture: A Study of the Ancient Nahuatl Mind. University of Oklahoma Press, 1990.
• Townsend, Richard. The Aztecs. Thames & Hudson, 2009.
• Carrasco, Davíd. Religions of Mesoamerica: Cosmovision and Ceremonial Centers. Waveland Press, 2013.
• Eliade, Mircea. Myth and Reality. Harper & Row, 1963.