أنفاس القلب
ما كان ذلك الجسد المتهالك، الذي يعبث الفناء بأوصاله، فيدنيه من تخوم الحياة ليشارف على هاوية الموت، سوى جسد الأب الفاني، الذي خلّف للعالم هذا النبت الجديد : فرانز ليست. أسطورة موسيقية نسجتها الحياة من دموع الفقد وحرارة الشغف. لقد أفنى الأب عمره وهو يصارع قسوة القدر، كي يرفع من صبي صغير مجدًا يطاول الزمان، فإذا بالحياة كلها تتجسد في هذا الغصن الندي الذي يُدعى فرانز.
عاش الأب متنقلًا بين عواصم أوروبا، حاملًا حلمًا يتجاوز قدره؛ أن يصوغ من ابنه موسيقيًّا بارعًا، وأن يزرع في قلبه ما يثمر يومًا نغمًا خالدًا. وها هو، وقد تكالب عليه المرض، يُقعده السرير، بينما أشباح الفناء تزحف بخطى وئيدة نحوه. يشد على يدي ولده واجمًا، محاولًا أن يبوح بوصيته الأخيرة. كانت الكلمات متهالكة، تكاد تموت على شفتيه، لكنه ألقاها بكل ما تبقى فيه من حياة:
“تمسك بالموسيقى... فهي رسالتك. اجعلها نبعًا صافياً، وحاذر النساء، فإنهن فتنة لا تنطفئ.”
قالها ومضى. وانطفأت شمعة الأب، لتشتعل شموع الأسطورة. لكن وصيته لم تكد تجف حتى صارت سرابًا، فإن قلب فرانز الفتيّ قد تفتح للدنيا، ولم ير في الوجود فتنة أعظم من المرأة.
المرأة: قدر موسيقي
كانت المرأة الفلك الذي دار فيه وجود فرانز ليست منذ جرى دم الشباب في عروقه. فالموسيقى عنده لم تكن سوى ظل من أطياف الجمال الأنثوي، تتجلى بألوان لا حصر لها، وتغذيه بصور لا تُعدّ من الفتنة. كان قلبه يلهث وراء كل إشراقة وجه، كما تلهث الفراشات وراء لهب الضوء.
أحبّ أول ما أحب ليلين، ابنة أحد أثرياء باريس. كان يعزف لها الدروس، فإذا بالنغم يتحول عشقًا، وإذا بالفتى يجد نفسه أسيرًا لحب جارِف يتفجر من دفء الشباب وحلاوة البدايات. لكن الأيام قاسية، سرعان ما انتُزعت ليلين منه، وزُفت إلى رجل من طبقتها الاجتماعية. انكسر قلب فرانز، ولم يجد في جرحه سوى نغمة حزينة تقوده نحو فكرة الانتحار مرة، وإلى حياة النسك مرة أخرى، أو إلى غياهب الأدب المظلم في مآسي بيرون وفولتير.
وهكذا بدأ يكتب ملامح نفسه على أوتار البيانو، فإذا بأنغامه ليست مجرد موسيقى، بل اعترافات قلب متمرد، يتأرجح بين اللذة واليأس، بين الحلم والخيبة.
باريس: مدينة النساء والأنغام
كانت باريس آنذاك مسرحًا للفتنة الفكرية والجمالية. وهناك، انقلب فرانز إلى رمزٍ مشتهى، نصفه موسيقي يذيب القلوب، ونصفه شاعر تراجيدي يعيش على الحافة. غدت أنغامه نفحات من السحر، تسيل من بين أصابعه كما يسيل الاعتراف من قلب عاشق. وتجمعت حوله جميلات باريس، يتهافتن كما الزهر على الضوء.
ومن بينهن أطلت جورج صاند، المرأة التي كسرت صورة الأنوثة التقليدية، واتخذت من الحب والكتابة سلاحًا وملاذًا. وفي رفقة هؤلاء النساء، كان فرانز يزداد غموضًا وأناقة، حتى غدا محط أنظار الرسامين والنحاتين والشعراء. غير أن هذا التمجيد المفرط أفسد تكوينه الخلقي، وإن لم يفسد موسيقاه.
فعبقريته كانت تنمو في ظل ذلك البذخ العاطفي والفكري، وجعلته محور نخبة من كبار المفكرين والفنانين: فيكتور هوغو، شوبان، برليوز، ومندلسون. وكان الحديث بينهم يجري كهمس الآلهة، فيما يتدفق النغم بين كؤوس النبيذ. وكان فرانز في وسطهم كإله يبحث عن مجده، ويهيّئ لغزوات جديدة في دنيا الفن والحب معًا.
الكونتيسة ماري: وهج ينطفئ
لكن قلبه لم يعرف السكون يومًا. ففي إحدى أمسيات الحلم، التقى الكونتيسة ماري داغو، الفتاة التي بدت كزهرة ثائرة في بستان باريس. كان يعزف على البيانو في منزل مركيزة، وبين الجموع التقى تلك العيون التي حملت زرقة البحر وصفاء السماء. قرر أن يغزو قلبها، ذلك القلب المختبئ خلف أستار من الذكريات الجريحة.
سرعان ما استسلمت له الكونتيسة، وروت له مآسي زواجها التعيس. عرض عليها الهروب، فترددت، ثم رضخت. ففرّا معًا إلى سويسرا وجنيف، وهناك اشتعلت نار الحب، لكنها سرعان ما خبت.
لم يكن زواجًا، بل علاقة جامحة سرعان ما تحولت رمادًا، مخلفة ثلاثة أبناء لم يعرفوا من أبيهم سوى زيارات عابرة. انشغل فرانز عنهم بجولاته الفنية، وكلما زاد شهرة ازداد اغترابًا عنهم. ولم تمض الأيام حتى داهم المرض ابنه الأكبر، ثم رحلت ابنته بلاندين، وبقيت كوزيما التي صنعت مأساة أخرى حين هربت مع الموسيقي فاجنر، تاركة زوجها.
كان فاجنر صديق فرانز، وتلميذه المدلل، فإذا به يخطف ابنته، ويترك في قلب الأب جرحًا آخر من سخرية القدر.
جراح القدر وصوت البوهيمية
تلك الضربة قوضت ما تبقى في نفسه. كان يمكن لتجربته أن تمنحه سيمفونيات وأوبرات خالدة، لكنه ضيّع الكثير في خضم الآلام والخيبات. لم يبقَ له إلا أنغام متناثرة ومقطوعات قصيرة، بينما صرف جل وقته في دعم فاجنر نفسه، ونشر موسيقاه التي لم يفهمها الناس آنذاك.
ومع ذلك، لم يخمد صوته الداخلي. بل عاد إلى الحياة البوهيمية بكل عنفوانها، متنقلًا بين باريس وفينا وميونيخ وبودابست، غارقًا في أحضان النساء، وفي كأس الحياة بكل مرارتها وحلاوتها. كانت موسيقاه تصرخ بصوت المتألم الثائر، الذي جحد كل مثل المجتمع، وآمن فقط بأن أنغامه هي الحقيقة الوحيدة التي تستحق الخلود.
حكمة الشيخوخة: قلب من هواء
ومن عجب أن هذا البوهيمي، الذي ملأ الدنيا ضجيجًا بالعشق والأنغام، عاد في شيخوخته إلى الكنيسة. عاد لا ليعتزل الفن، بل ليجد في الصمت المقدس ما يكمل موسيقاه. غدت نظرته فلسفية، عميقة، كأنه يقرأ الحياة من وراء ستار شفيف:
“الدنيا خيال واهم، وكل ما نحياه من حب وثراء وشهرة ليس إلا أطياف حلم عابر، أما الحقيقة فهي الجمال، وهو وحده الذي يفضي إلى الحق والوجود.”
هكذا انتهت حياة فرانز ليست، أسطورة عجيبة صنعها القدر، مبعثها قلب لم يعرف الثبات، قلب لم يكن من نار ولا من حجر، بل كانت أنفاس قلب في الهواء .