أحلام عالقة بين الممكن والمحال
مقدمة
تبدو الحياة في كثير من المجتمعات العربية اليوم مسرحًا تتقاطع فيه التراجيديا الإنسانية مع الخطابات الإعلامية الملوّنة. فبينما تُصدِّر شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي صورًا وردية عن التقدّم والرفاهية، يعيش الأفراد في واقع مثقل بالحرمان والتهميش والخذلان. هذا التناقض بين الواقع المُعاش والصورة المتخيَّلة ولّد حالة من الاغتراب النفسي والاجتماعي، وفتح الباب أمام البحث عن "أحلام مستحيلة" تُعاش في "واقع افتراضي" أكثر من كونها واقعًا ملموسًا.
الواقع المأزوم: صور من الحياة اليومية
عند أول نظرة إلى المشهد، نلمس ملامح الحزن على وجوه الناس، وجوه أرهقها الفقر وامتهنتها الحاجة. الأطفال الذين يُفترض أن يعيشوا براءة أعمارهم، يجدون أنفسهم أسرى للحرمان. الكهرباء تنقطع، والمياه شحيحة، والمواصلات مرهقة، وكل تفصيل يومي يكشف عن هشاشة البنية التحتية للعيش الكريم.
ومع ذلك، تتحرك عجلة الحياة؛ عمال النظافة يواصلون كنس الشوارع، الطلبة يتوجهون إلى مدارسهم وجامعاتهم، والمكتبة العامة تجمع الشباب للحوار والنقاش. هذه المظاهر الصغيرة من الحيوية الإنسانية تعكس قدرة المجتمع على المقاومة، لكنها تظل محاصَرة بجدار الواقع المرير.
البُعد النفسي: الحزن المكبوت وصوت الضياع
يترسخ الحزن في النفوس على هيئة جراح لا تندمل. الأم التي تبكي على ابنها المفقود، والطفل الذي يُحرم من دفء والده، والمختل عقليًا الذي يصرخ في الشارع دون أن يلتفت إليه أحد—كلها صور تجسّد الألم الجمعي. في كل قصة يتكرس شعور بالفقدان: فقدان الأمان، وفقدان العدالة، وفقدان الحلم.
هذا الحزن المتراكم يولّد إحباطًا جماعيًا، ويدفع الأفراد إلى الانسحاب نحو عوالم متخيّلة أو "افتراضية" يتوهمون فيها الحرية والعدالة. من منظور علم النفس، يمكن النظر إلى هذا الانسحاب بوصفه آلية دفاعية تقي الفرد من الانهيار التام أمام الواقع، لكنها في الوقت ذاته تعمّق الفجوة بين الذات والعالم الخارجي.
البُعد الاجتماعي: مجتمع تحت ضغط التهميش
الواقع الاجتماعي هنا يتسم بالهشاشة واللاعدالة. الفقر والبطالة ينهشان في جسد المجتمع، وتُقصي السياسات فئات واسعة عن المشاركة الفاعلة في الحياة العامة. يزداد الشعور بالتهميش عندما يُزج بالشباب في السجون دون جرم حقيقي، فيتحول الأمل إلى قيد جديد، ويُختزل الوطن في "دهاليز النسيان".
الأسرة، التي يُفترض أن تكون خلية حماية، تُصاب هي الأخرى بالتصدع نتيجة الغياب القسري لأحد أفرادها. هذه التجربة اليومية للغياب تُعيد إنتاج مشاعر الحرمان والاغتراب وتعمّق الإحساس بعدم الانتماء.
الصور النمطية: تشوه الوعي الجمعي
إلى جانب التحديات المادية، يظهر عامل آخر لا يقل خطورة: الصور النمطية المتجذرة في المخيال الاجتماعي. فبعض المصريين يستحضرون صورة "مصر الجميلة" في الستينيات أو الأربعينيات، حيث كان التعايش والتسامح أكثر حضورًا، ويقارنونها بسوء الواقع الحالي، فيصبّون اللوم على فئات اجتماعية أو دينية بعينها. آخرون يستدعون حلم "الخلافة" وتطبيق الشريعة بوصفه الحل السحري لكل أزمات الحاضر، دون فهم تفصيلي للكيفية أو للنتائج.
هاتان الصورتان النمطيتان تكشفان عن مأزق الوعي الجمعي: الميل إلى الهروب نحو الماضي أو اليوتوبيا المتخيّلة بدل مواجهة الواقع بموضوعية. ويؤدي هذا الانقسام إلى مزيد من التنافر الاجتماعي والخصومة بدل التضامن.
البُعد الفلسفي: بين الحقيقة والوهم
من زاوية فلسفية، تتجسد المعضلة في التوتر بين "الواقع" و"الافتراضي". فالواقع المأزوم لا يقدّم للفرد سوى الألم، بينما الافتراضي يفتح له باب الحلم. لكن هل يمكن للحلم أن يصبح بديلاً عن الواقع؟
هنا يطل سؤال هايدغري: كيف يمكن للإنسان أن يكون "أصيلًا" في عالم غير أصيل؟ إن التعلق بالصور النمطية أو الأحلام المستحيلة هو في جوهره اغتراب عن الذات وعن الحقيقة. فالأحلام غير الواقعية لا تعالج الألم، بل تؤجله، وتحوّل الإنسان إلى كائن يعيش في "لا–مكان"، بين الوهم والخيال.
البُعد النفسي–الاجتماعي: دائرة القهر المستمرة
ينتج عن هذا التداخل بين الحرمان الاجتماعي والاغتراب النفسي دائرة متكررة من القهر. فالمجتمع المحروم يولّد أفرادًا مثقلين بالحزن، وهؤلاء الأفراد يعجزون عن تغيير الواقع بسبب العوائق البنيوية والسياسية. النتيجة هي حلقة مفرغة تدور حول ذاتها، تُعيد إنتاج الأزمات بدل حلّها.
ومن منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن القول إن هذه الحلقة تخلق ما يُعرف بـ"العجز المكتسب"، حيث يتوقف الأفراد عن محاولة التغيير، مقتنعين أن كل جهد محكوم عليه بالفشل. هنا يتعمّق الإحباط ويترسخ وهم الحلم المستحيل.
نحو أفق جديد: بين الحلم والإمكان
رغم قتامة المشهد، يبقى الأمل عنصرًا لا غنى عنه. الأمل لا بمعناه الوهمي الذي يتجسد في أحلام مستحيلة أو صور مثالية عن الماضي، بل بمعناه الواقعي–العملي الذي يتجسد في خطوات صغيرة لتحسين الواقع. قد يبدأ ذلك بترسيخ ثقافة احترام الآخر، وتوسيع دوائر الحوار، ومقاومة الصور النمطية، والعمل على العدالة الاجتماعية بوصفها ركيزة للاستقرار النفسي والاجتماعي.
الفلسفة هنا لا تكتفي بالتشخيص، بل تدعو إلى تجاوز الثنائية بين "الواقع المأساوي" و"الحلم الافتراضي". إن الأفق الحقيقي يكمن في تحويل الحلم إلى مشروع اجتماعي–سياسي–إنساني، ينطلق من الاعتراف بالألم لكنه لا يتوقف عنده.
. إريك فروم (Erich Fromm) – منظور التحليل النفسي–الإنساني
• يرى فروم أن الأحلام المستحيلة ليست مجرد أوهام، بل انعكاس لحاجة إنسانية عميقة إلى تجاوز الواقع المقيد.
• في إطار فكره الإنساني، كان يميز بين "الأمل الواقعي" الذي يحرك الإنسان للعمل من أجل التغيير، و"الوهم" الذي قد يتحول إلى انسحاب من الواقع.
• بالنسبة له، فإن التعلق بالأحلام المستحيلة قد يكون نوعًا من الهروب من الحرية (وهو عنوان أحد كتبه)، حيث يسعى الإنسان إلى عالم مثالي خالٍ من التناقضات لأنه عاجز عن مواجهة واقعه.
• لكنه في الوقت نفسه لا ينفي القيمة الرمزية لتلك الأحلام، إذ يمكن أن تكون بذوراً utopian seeds تلهم الفرد والمجتمع لتجاوز حدود الممكن وفتح آفاق جديدة.
2. بيير بورديو (Pierre Bourdieu) – منظور اجتماعي–ثقافي
• بورديو ينظر إلى الأحلام في ضوء الحقل الاجتماعي (field) ورأس المال الرمزي والهابيتوس (habitus).
• ما يُعتبر "مستحيلاً" ليس مجرد أمر ذاتي، بل مرتبط بالبنية الاجتماعية والثقافية التي تحدد ما هو ممكن وما هو غير ممكن بالنسبة للفرد.
• فالأحلام المستحيلة عند الطبقات المهمشة مثلاً هي انعكاس لغياب رأس المال الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي الذي يمكّن من تحويل الرغبات إلى واقع.
• لذا، يرى بورديو أن "المستحيل" ليس قدراً، بل هو نتاج علاقات القوة في المجتمع: فالمهيمنون يحددون أفق الممكن، ويتركون للآخرين أحلاماً تبدو بعيدة المنال.
3. ميرسيا إلياد (Mircea Eliade) – منظور ديني–أسطوري
• إلياد يتعامل مع الأحلام المستحيلة كجزء من البنية الرمزية والخيال الأسطوري.
• في نظره، الإنسان عبر التاريخ كان دائماً يعيش بين "الزمن العادي" و"الزمن المقدس"، وبين "الواقع المعيش" و"اليوتوبيا الأسطورية".
• الأحلام المستحيلة عنده قد تُقرأ كحنين إلى "العودة إلى الأصل" أو إلى "الزمن المقدس" الذي لا يخضع لقوانين الواقع.
• لذلك، فهي ليست مجرد أوهام، بل رموز كونية تحمل دلالة على توق الإنسان إلى المطلق، إلى تجاوز المحدود والناقص.
• بهذا المعنى، "المستحيل" ليس وهماً بل حقيقة ميتافيزيقية تتجلى في صورة حلم.
خلاصة مقارنة
• فروم: الأحلام المستحيلة تعبير عن الحاجة الإنسانية، لكنها قد تكون بين الوهم الخطر وبين الأمل الخلّاق.
• بورديو: المستحيل محدد اجتماعياً، ومرتبط بعلاقات القوة والموارد المتاحة.
• إلياد: الأحلام المستحيلة هي انعكاس رمزي–أسطوري لتوق الإنسان إلى المطلق والعودة إلى الزمن المقدس.
خاتمة
الأحلام المستحيلة في الواقع الافتراضي ليست سوى انعكاس لخيبات الواقع العيني. غير أن الطريق للخلاص لا يكمن في الانغماس في الوهم أو الانسحاب إلى الماضي، بل في شجاعة مواجهة التناقضات والسعي إلى بناء واقع أكثر عدالة وإنسانية. إن التحدي الأكبر يكمن في تحويل الحلم من "يوتوبيا افتراضية" إلى مشروع واقعي، يرد للإنسان كرامته، ويمنحه الحق في حياة كريمة.
وبذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: هل نستطيع أن نكسر دائرة الألم ونحوّل أحلامنا إلى إمكانات واقعية، أم سنظل نبحث عن أوهام في فضاء افتراضي لا يسمن ولا يغني من جوع؟