الدنيا امرأة
أوغل الليل في ظلامه ، وبرد الشتاء القا رس يلسع العظام. كانت سيارتنا تشق الظلام كأنها سهم مضيء يجر وراءه ضحكاتنا العالية المجللة . على الكورنيش ؛ كورنيش البحر ، كان البحر يتنفس ببطء شديد ، موجه يتكسر على الشاطئ في الظلمة، وأضواء المصابيح تنعكس على الزجاج الأمامي للسيارة ، فتبدو كأنها نجوم تسيل فوق الماء.
كنّا أربعة . شباب مثل الورد، مفعمون بالحيوية ؛ بالضحك ، بالطيش، لا يشغلنا شاغل غير لهونا . آباؤنا يمدون أيديهم بالكرم الحاتمي ، ونحن نغترف من الحياة ببراءة لا تعرف حساب الغد . بدت الليلة كأنها عيد صغير ؛ الخمرة تلعب في رؤوسنا، والضحكات الرنانة في أفواهنا، والليل يصفق لنا بموسيقاه كراقص طروب.
وجهتنا كانت امرأة . أي امرأة . هكذا اتفقنا جميعًا ، نقضي معها سهرتنا … إلا حشمت.
كان حشمت عاشقًا للجمال، لا يرضى بالقبح مهما كان. يتأفف إن صادف وجهًا لا يروق له حتى و لو كان فيه مسحة من جمال ، ويستعيذ بالله من شر الشيطان . ومع ذلك، الليل كفيل بأن يُلين قلبه، والضرورة تفرض أحكامها على كل حرون .
في المقعد الخلفي جلس شوقي يثرثر – كعادته – بلا توقف، بينما وفيق – رفيقنا اللاذع – يرد بسخرية تقطع كالسيف الباتر. لم يكن يعرف المجاملة مهما يكن ؛ كلماته يعري كل شيء : البشر والحيوانات والجمادات، كلها عنده كائنات تعيسة تستحق التعليق اللاذع . كنّا نحاول أن نعلو بأصواتنا معًا ، لكننا نخفت في النهاية ، ليبقى صوته وحده يسيطر على الجو .
الليل يزداد عمقًا، والرفاق يزدادون صخبًا و لهوا ، ووفيق يزداد تألقا .
لكن فجأة، تبدل صوته. لم يعد ساخرًا، بل صار خافتًا مرتجفًا:
– "إيه يا أولاد؟ دي… جثة؟!"
تجمدنا. أبصارنا اندفعت نحو الرصيف. تحت ضوء مصباح شاحب، كان شيء ممدد كأنه إنسان مرميّ على وجهه. كلب صغير يدور حوله وينبح نباحًا متقطعًا، يئن كأنه يبكي صاحبه ، أو فقدان أمه .
قال شوقي بتوتر:
– "دي عربية خبطته؟ ولا طالع على الرصيف إزاي؟"
سأل حشمت بتردد وهو يضم معطفه:
– "ها… هتعملوا إيه؟"
رد وفيق بحدة:
– "هننزل، لازم نشوف."
– "أنا هستنى في العربية"، تمتم حشمت وهو يشيح بوجهه.
نزلنا نحن الثلاثة، والبرد يلسع وجوهنا بشدة . كأن شيئًا غامضًا ينتظرنا في الظلال. اقتربنا بحذر و بطئ ، وقلبنا الجسد. فإذا هو غلام صغير، ربما في الرابعة عشرة من عمره . وجهه أحمر محتقن، أنفاسه لاهثة متقطعة ، كأن صدره يحمل حجارة. ملابسه ممزقة، جسده يرتعش .
انحنى شوقي يتحسس نبضه كطبيب ناشئ ، بينما وفيق أخذ يصفعه بخفة:
– "فوق يا شاطر… فوق."
تحرك الغلام فجأة ببطء ، زفر بأنفاس حادة، وفتح عينيه بصعوبة بالغة . نظراته غائمة ، شاردة ، مشوشة، كأنه يرى عالمًا آخر غير الذي نحن فيه. حاول أن يتكلم ، لكنه لم يستطع قول شيئا ، فقط لفظ كلمة واحدة:
– "… ميه."
كان صوته جافًا، مبحوحًا، كأن حنجرته تحترق.
قال وفيق بسرعة:
– "خبط على أي باب يا شوقي… هات شوية ميه."
ركض شوقي بسرعة ، ثم عاد بعد دقائق معدودة يسب أصحاب البيوت الذين فتحوا شقوق نوافذهم وصرخوا بفرنسية مكسّرة وعربية غاضبة :
– "قوموا من النوم علشان شوية عيال ؟!"
خلع وفيق سترته ووضعها على صدر الغلام. الريح تعصف بشدة ، والبرد يتغلغل فينا. صوته يسعل سعالًا يمزق الصمت:
– "أنا… عندي ربو."
حين سمعناها، شعرنا أن الليل كله انكمش، وأن أنفاسنا صارت حشرجات معه.
بدأ الصبي يروي حكايته بصوت متقطع: أمه ماتت. أبوه تزوج امرأة قاسية القلب . طردته منذ سنتين. اشتغل هنا وهناك، بالكاد يأكل أو ينام على لحم بطنه ، المرض هاجمه، والمستشفى لفظته . عاد إلى أبيه يستجدي الرحمة، لكن الأب رماه خارج البيت:
– "يموت في ستين داهية !"
كنا نستمع ودموعه تختلط بسعاله، كأننا نصغي إلى جرح يسكننا نحن أيضًا.
قال وفيق بعزم:
– "لازم نروح لأبوه. لازم يعرف اللي يحدث لابنه ."
تمتم حشمت باستخفاف:
– "ينعل أبو اللي خلفوه ، دول حيوانات ."
لكننا تحركنا. السيارة بدت أشبه بآلة تقودنا إلى قدر غامض مجهول الخطو .
تركنا السيارة في أول الطريق ؛ الحارة ضيقة ، كنا نسير و نحن ننظر إلى أسفل أقدامنا ، حتى لا نقع في حفرة ، البيت غارق في الظلام الحالك . طرقنا الباب عدة طرقات متتالية . خرج صوت امرأة من الداخل، حاد كصوت لبؤة :
– "قوم يا أبو علي… شوف مين بيخبط في الليلة ده !"
فتح الأب. رجل ضخم البنيان ، غليظ الملامح كأنه مارد ، عيناه تشعان قسوة .
قلتُ بتردد شديد :
– "مساء الخير يا حاج."
– "عايزين إيه في سنتكم المهببة ؟!"
– "إنت طردت ابنك؟ ليه؟"
صرخ الرجل بصوت مجلل :
– "ده مش ابني! ده شيطان! بيسرق فلوس البيت. ما يدخلش عندي تاني، أنا حلفت."
من الداخل دوّت صرخة المرأة:
– "خش يا راجل من البرد واقفل الباب… دول شوية عيال مسحراتية !"
صفق الباب في وجوهنا.
اقترب الغلام بنفسه، يترنح من التعب ، وراح يطرق الباب:
– "آبا… افتح لي يا آبا… علشان خاطري."
لكن الأب لم يفتح. ظل يلعنه ويلعن أمه الميتة ، والسنين التي أنجبته. بكى الغلام بكاءً يشق القلب، صوته ضعيف، كأنه يأتي من بئر بعيدة.
النوافذ انفتحت. رؤوس الجيران أطلت. اللعنات انهمرت علينا كأننا يهود :
– "شوية بهائم! أولاد شوارع ، ملهمش أهل !"
ارتفع نباح الكلاب الضالة تساعد الجيران ، وارتفع معه الضجيج، حتى ابتلع صوت الغلام .
عدنا إلى السيارة، والمرارة تحرق صدورنا. الغلام مستند إلى كتف وفيق، وجهه يطفو بين الإغماء والصحو، والكلب ملازم له، يئن وكأنه يبكي معه.
في الطريق، ضحك حشمت ضحكة رفيعة، فيها أسف وسخرية:
– "ولد غلبان جدا… بس يا خسارة، الليلة ضاعت ."
لم يرد أحد. شوقي كان يحدق في الظلام من النافذة، بينما وفيق يساعد الغلام على الصعود إلى بيته. الكلب يهز ذيله فرحًا.
خرجنا تلك الليلة بحثًا عن امرأة… أي امرأة. لكننا وجدنا الغلام. وكانت حياته كلها سلسلة من النساء: أم ماتت، زوجة أب قاسية، امرأة في صورة قدر لا يرحم.
وأنا، حين عدت إلى بيتي، سمعت شيئًا عميقًا يهمس في داخلي:
الحياة كلها… ليست سوى امرأة ، الدنيا امرأة .