قلوب على رصيف القدر

قلوب على رصيف القدر
غدًا مع الفجر، سأغادر الإسكندرية. وحين يتحرك بي قطار الديزل من محطة سيدي جابر، سألوّح بيدي مرتين، كأنني أصفّي حسابي مع أجمل ثغور الدنيا، وأترك قلبي معها في سلام. عامٌ ونصف مضيا، خرجت منهما مفلسًا، لكن بصفحة بيضاء، بلا دينٍ ولا جميل. لقد انسحبتُ من هذه المدينة الكبيرة كما جاء الغريب، مبتسمًا في تسامح، منحنياً لتاريخها الرؤوم القاسي. قررت أن أهرب بما تبقّى من نقود غي حافظتي ، لألقي بنفسي في حضن القاهرة، قائلاً لها: "خذيني يا أمّي الرحبة، يا مدينة الألف باب يا مدينة السحر و الجمال ". وهناك، على رصيف المحطة، انتظرني القدر في صورة زميل قديم، صديق دراسةٍ وشغبٍ مدرسي، لم أره منذ أعوام. تعانقنا، ضحكنا، وعدنا نردّد محفوظاتنا القديمة، كأن الزمن لم يمضِ. لكنه تركني فجأة يبحث بعينيه عن مسافرةٍ تأخرت، فلما سألته أجاب في تيهٍ واعتداد: "إنها خطيبتي". ضحكت في مرارةٍ صامتة، وقلبي يتزلزل زلزالًا خفيفًا يذكّرني بخواء أيامي الماضية ، وحيدا . قادني إلى مكتبه الفخم، ومن هناك عرض عليّ وظيفةً لا تُقاوَم: راتب كبير، وفيلّا بحديقة خلابة على أطراف الصحراء. لكن الشرط كان صارمًا: أن أكون متزوجًا في أسبوع ، متزوجا بامرأة جميلة ، ممشوقة القوام . ارتجفتُ، فأنا لا أعرف في القاهرة سوى هو، وذلك الحمال العجوز الذي حمل حقائبي إلى البنسيون مقابل جنيها كاملا ! منذ تلك اللحظة بدأت لعبة القدر. سارعت أبحث عن زوجة بهذه المواصفات ، أذرع القاهرة طولًا وعرضًا، أرتجل محاولاتٍ فاشلة، إلى أن جاءت المصادفة على سلالم العمارة: فتاة كأنها خرجت من حديقة أفردويت الأسطورية، ريحانٌ يمشي على قدمين ، رائحة تجذب النفوس إليها . اقتربتُ منها بحيلةٍ صغيرة تعلمتها في صغري ، أنقذتها من "دبورٍ وهمي"، فضحكت في وجهي ، و قالت بسخرية : أنت الدبور ، ومن هنا بدأت الحكاية. كانت اسمها ألفت. مثقفة، ناضجة ممشوقة القوام كأنها تماثيل نحته الفنان ، في عينيها بريق المدن الحديثة ، وفي صوتها موسيقى لم أسمعها من قبل. في ساعاتٍ قليلة، جابت معي شوارع القاهرة دون ملل ، وعلى ضفاف النيل شعرتُ أن الأرض تهتزّ تحت أقدامنا. لم يكن الأمر لعبًا هذه المرة؛ كان قلبي يتورط شيئًا فشيئًا. وفي لحظة صدق، اعترفت لها بكل شيء: عن فشلي، عن نفاد نقودي، عن الوظيفة المشروطة بالزواج. نظرت إليّ طويلاً، ثم همست: "يا إلهي، إنني أحبك". لكنها، في الوقت نفسه، ألقت قنبلةً مدوّية: إنها مخطوبة، وأن أهلها يعدّون حفلة خطبتها بعد يومين. كنتُ شهمًا في هزيمتي. أخبرتها أنّني لا أصلح لها، وأنها تستحق حياةً مستقرة لا يستطيع رجل بوهيمي مثلي أن يمنحها إياها. حاولتُ أن أودّعها، لكن قلبها كان قد اتخذ قراره: ألغت الحفلة، وواجهت أسرتها بعنادٍ عاصف، وأصرت أنني رجلها الذي اختاره القدر. أوراق الزواج أُنجزت بسرعة ، والوظيفة صارت في يدي، والفيلا تنتظرنا على أطراف الصحراء. ذهبت إلى عفت، صديقي القديم، أطلعه على الخبر في فرحٍ طفولي، وهو يهزّ رأسه معجبًا بجرأتي، حتى طلب منّي ورقة الزواج لإرفاقها بالملف. ناولته الورقة كمن يقدم تذكرة دخول الجنة... فإذا بابتسامته تتجمد، وعينيه تتسعان في ذهول: "ألفت... ألفت نعمة الله؟!" ارتجف صوته كمن أصابه صاعق: "لقد تزوجت خطيبتي!". تبادلنا نظرات صامتة، مشدوهين أمام صفعة القدر. وأخيرًا، انفلتت مني ابتسامة هائمة، وأنا أهمس كمن يخاطب سرّ الأبدية: "ما حيلتي يا عفت؟ ما ذنبي؟ إنها مصادفة القدر..." هكذا يكون القدر رحيما بالبعض عطوفا ملبيا رغباتهم مبتسما في وجوههم ، قاسيا بخيلا عبوسا على البعض الآخر ،

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال