حين يصمت الراديو تتكلم الخيانة

حين يصمت الراديو تتكلم الخيانة
صرخة في الفراغ كان يردد في أعماقه، وكأنه يصرخ في فضاءٍ بلا صدى: "كلهم كذّابون الناس من حولك … المحطات، المذيعون، وكالات الأنباء، الصحف، المحررون، المراسلون… حتى أولئك العرب في المحطات الأجنبية. ولكن… ما هي الحقيقة ؟ " أمامه ركام من الصحف، يبحث بينها عن صحيفة عربية بتاريخ الأمس أو قبله، عن رسالة لصديق، عن كلمة واحدة تصرخ : "إنهم ما زالوا يزحفون… ماضون في زحفهم." لكن الصمت كان سيد الموقف، صمتٌ مشبع بالكذب ، كذب بلا حياء الراديو الأخرس أدار مفتاح الراديو بعصبية، يضبط الإبرة ببطء حينًا وبرعشة عصبية حينًا آخر، كمن يستجدي صوتًا من إذاعة عربية وطنية تقول له: "الجنود العرب قطعوا كيلومترًا آخر نحو تل أبيب… لم يتوقفوا، لم يتراجعوا…" لكن القاهرة صامتة كالعادة ، القدس غائبة، دمشق بعيدة ل البعد عن المشهد ، وبيروت آه يا بيروت بلا همس. أهو خلل في الإرسال؟ أم أن هذا الراديو العجوز لم يعد إلا شاهدًا على خذلان جديد ؟ أربعة أيام من النشوة قبل أربعة أيام، كانت أصوات القاهرة تملأ قلبه بفرح جارح. الجيوش العربية على وشك الالتقاء، كماشة تضيق، ونهاية المهزلة تقترب. كان يتخيل المستقبل: وعي جديد، صخرة تتحرك، تتحول إلى موجة فتية تندفع في النهر. لكن شيئًا ما كُسر… والراديو لم ينطق بعدها إلا بصفير وأنغام مبتورة و أغاني حزينة وكلمات أجنبية مشوشة. ثم فجأة، انطلقت أصوات المذيعين العرب جميعًا دفعة واحدة… أصوات مختلطة، متناقضة، نصفها شتائم، ونصفها الآخر تهليل لانتصارٍ لم يحدث، أو ربما إعلان عن هزيمتنا. الهروب إلى الشوارع أغلق الراديو بلا وعي، فغرق المكان في صمت ثقيل يشبه صمت المقابر. حاول أن يقرأ كتابًا، لكن الصفحة تارة سوداء وتارة بيضاء، والوعي يتسرب من بين يديه. خرج بلا وجهة، نزل السلم كمن يهرب من جلده، وسار في شوارع باريس. هناك، صرخة بائعة الصحف أمام مقهى "ديبون" اخترقت أعماقه: "فرانس سوار… لوموند!" تراجع مذعورًا؛ تلك الصحف ليست سوى أكاذيب يكتبها ويغذيها اليهود. لكنه في "الكابولاد" سمع الصرخة نفسها… فاشترى جريدتين وعاد نحو الفندق. سيمون … الملاذ المؤقت عند مدخل الفندق، التقى سيمون وتذكر موعدهما الذي أضاعه. اعتذر بكذبة لم تصدقها، لكنه أمسك بذراعها وصعد معها إلى غرفته. في حضنها غرق في لذة جسدية طاغية، أوهم نفسه أنها روحانية تتجاوز الجسد. قضيا اليوم التالي في فرساي، لكن المساء أعاده إلى واقعه البارد. الهدنة… وصدمة الخيانة في الحي، اشترى "فرانس سوار" وقرأ ببرود: "الحكومات العربية وقعت الهدنة مع اليهود." سألته سيمون : "لماذا قبلوا الهدنة إذا كانوا منتصرين؟" وحين أصرّت، قال ساخرًا : "هتلر… كان يجب أن ينتصر." تغير وجهها، وصرخت غاضبة: "لا حق لك في مدح هتلر! أنت تهين كل فرنسي!" صفعها وطردها، ثم غرق في أفكاره: ليتنا كنا متوحشين بما يكفي لردع من يغتصبون أرضنا… لكنه سرعان ما شكّ : هل انتهى كل شيء حقًا؟ حقيقة أقسى من الكذب أمسك الصحيفة مجددًا… وابتلع الحقيقة المرة: ليس العدو هو الكاذب، بل أهله وقومه، معظمهم جبناء، معظمهم خونة. شعر بجدران الغرفة تضيق عليه حتى كاد يختنق. أظلم كل شيء، قبل أن يوقظه حمدي، والدم يغطي وسادته. شربا معًا حتى الثمالة، وهو يراقب الأخبار كمن يشاهد مسرحية خاسرة: استئناف القتال، هدنة ثانية، ثم هزيمة نهائية. ولا شيء في داخله يتحرك. العودة بلا حلم صار يخجل من نفسه في شوارع باريس، يخجل من كل عربي وأجنبي ، كل عربي جاء إلى باريس للمتعة ، وكأن كل أجنبي هو اليهودي المنتصر. فقد شهيته للحب بكل أنواع ، وللأمل، وحتى للحزن. عاد إلى وطنه بصمت كئيب ، بلا وداع، ليجد قومه يمضون في حياتهم كأن شيئًا لم يكن ، و كأن الهزيمة لشعب آخر . في غرفته، اتخذ القرار: أن يميت نفسه القديمة، يقتل الثقة بزعمائه، ويبدأ صراعًا جديدًا. ويوم يقتل تلك النفس… يمكنه أن يولد من جديد. و لكن أنا أيضا أصبحت كاذبا .

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال