جريمة في البحيرة
كانت اللحظة الحاسمة أسرع مما توقع شريف الخالدي. وحين جلس بين الأعشاب على ضفاف البحيرة الداكنة في الفيوم، أدرك تمامًا أنه ينحدر إلى هاوية أعمق من تلك المياه التي لا تبعد عنه سوى خطوات. حاول جاهدًا أن يؤخر تلك اللحظة الفاصلة، لكن الزمن لا يرحم، وعجلة الأيام لا تتوقف عن الدوران.
لم يعد أمامه سوى يوم أو نحوه، وسينفجر البارود الذي ظل جالسًا فوقه طوال تلك الفترة. ستنكشف الحقيقة التي طالما سعى إلى إخفائها، وسينهار كل ما بناه. سيفقد محبوبته الجميلة، وسيتجلى أمام الجميع خداعه وغشه. لم يعد هناك مخرج... سوى تلك الفكرة الخبيثة التي تسللت إلى رأسه في غفلة من عقله وضميره.
رنّ في أذنه صوتها العذب الرقيق ، كأنما يأتي من وادٍ سحيق. كانت تجلس إلى جواره، وقالت في مرح:
– "هل تعرف ما أفكر فيه الآن؟ أود أن أعوم في هذه المياه الجميلة."
رفع بصره إلى السماء السوداء ، فلم يجد نجمًا واحدًا يضيء هذا الليل الثقيل الكئيب. السحب تزاحمت في الأفق، وكل شيء حوله كان ينذر بعاصفة قادمة ، عاصفة ستدمر حياته ، كان بإمكانه أن يثنيها عن فكرتها، أن يتراجع، أن يؤجل الخاطر الشيطاني الذي ينهش قلبه و عقله، لكنه شعر بقوة غامضة تدفعه دفعًا نحو تنفيذ ما يفكر فيه.
لمَ لا؟ إنه الحل الوحيد المتبقي للخروج من أزمتي .
قالت له بابتسامة:
– "هيا بنا إلى بحيرة قارون... هذه المرة فقط."
نظر إليها، ولمعت عيناه ببريق غريب. أجابها:
– "هيا، أنا أيضًا أرغب بذلك."
ما حدث بعد ذلك كان تلقائيًا. دخل خلف الأشجار، وبدّل ملابسه، بينما ارتدت هي ثوب السباحة البكيني، ومضيا معًا في اتجاه البحيرة. كانت تمسك بقبعتها البيضاء التي تغطي بها معظم شعرها، تداعب بها النسيم، وهو يشعر وكأنه يسير نحو رحلة لا عودة منها.
في شبابه الأول، لم يكن شريف الخالدي يظن أن مظهره الساحر وشعره الأشقر المجعد وملامحه الجذابة، كافية لتجذب قلوب الفتيات في المدرسة. ولم يكن يؤمن بأن في قلبه مكانًا لأنثى، فمضى في حياته دون اكتراث بالحب.
وحين ترك المدرسة، التحق بدار صرافة يعمل بها كاتبًا. وهناك، قابل "سوزي محمود"، عاملة الهاتف في الدار نفسها.
منذ اللقاء الأول، كانت سوزي تفيض حيويةً وشبابًا. بدأت علاقتهما كما تبدأ معظم القصص: دعابات خفيفة، ثم مقابلات عارضة بعد انتهاء العمل، تلاها سهرات ومسارح، ثم عشاءات، ثم زيارات متبادلة، حتى جاءت الليلة الأولى التي تلامست فيها الشفاه تحت ضوء القمر على تلال بحيرة قارون.
يومها، سألها وهو يشعر بارتجافها:
– "هل أنت بخير؟"
فلم تجبه من إحساسها بغيبوبة القلة، بل مدت يدها تطوق عنقه مرة أخرى ، وتشده إليها في شغف و قوة . ثم همست:
– "أحبك... أحبك."
كان اعترافها هذا كافيًا لأن يذيب قلب أي رجل مهما كان . لكن شريف لم يركع، رغم أنه شعر بنشوة الانتصار، إذ استطاع أن يوقظ تلك العاطفة المتأججة في روحها البريئة.
مضت أشهر. ثم استُدعي شريف للجيش، وتحديدًا إلى السويس. في محطة القطار، تعانق مع سوزي في قبلة طويلة، أمام عيون الأهل والناس، وتعاهدا على الإخلاص.
لكنه هناك، قابل فتاة أخرى... "رشا"، الشقراء الرشيقة، طالبة الموسيقى التي تجيد الرسم أيضًا. وجد فيها ما لم يجده في سوزي ، وراح يسعى خلفها بجاذبيته. لكنها لم تظهر سوى ابتسامة هادئة ، كانت كافية لإيقاد نار العشق فيه.
أحبها أيضًا حبا جنونيا ، اشتعل في كيانه كله .
وتناسى سوزي التي تنتظره في الفيوم ، ترسم أحلامها الوردية ، وتنسج المستقبل المشرق على وقع خطواته القادمة.
حين حان موعد الإجازة، قرر أن يصارح سوزي. قال لنفسه:
"سأفعلها تدريجيًا، بحكمة وهدوء، فهي فتاة طيبة، تستحق الاحترام."
لكن حين عاد، وأرتمت سوزي بين ذراعيه في أحضانه ، واحتضنته كما لو وليدها ، أنه العالم بأسره يدور بها ، تراجع عن قراره.
"سأؤجل المصارحة... فقط لأيام. أستمتع بهذه الليالي، ثم أخبرها لاحقًا."
كذا قال لنفسه المضطربة .
وفي كل مرة كان يهم بمصارحتها عن كذبته ، ينهزم أمام مشاعرها الجياشة، أمام حبها الطاغي النابض بالحياة .
أدرك أنه الآن بين امرأتين:
مع سوزي، كان الرجل السيد، المهاب المطاع.
مع رشا ، كان العاشق الذليل، الأسير الخاضع...
ورغم ذلك، كان قلبه ينجذب دومًا نحو رشا، لأنها كانت الأعمق قوة و شعورا ، الأشد أثرًا في روحه المضطربة .
فجأة، تبدّل كل شيء. مرضت سوزي، ولمّا فحصها الطبيب قال:
"مبروك ، ستصبحين أمًا."
صدمه النبأ الذي قد يغير كل خططه ، و يقلب حياته رأسا على عقب ، لكنها قالت بدموعها:
"لا أريد أن أفقد هذا الطفل ، أريد هذا الطفل لأنه ثمرة حبنا ..."
فقال لها بشهامة:
"سنتزوج قبل سفري ."
لكن شهامته التي ظهرت فجأة لم تدم طويلًا. عاد للتردد، للعجز.
عقله يقول في قوة : "تزوج سوزي."
وقلبه يصرخ في أعماقه : "رشا... رشا هى الحياة ، هى السعادة ..."
ذات يوم، وبينما كان متجهًا إلى البريد ليرسل رسالة إلى رشا، لمح سوزي مع صديقتها. تهرّب من مواجهة الواقع المؤلم ، وأدار السيارة راجعا، وسافر إلى رشا، وقضى معها يومًا كاملاً بين أهلها . وفي المساء، همست له:
"صديقاتي يعتبروننا مخطوبين ، و قد اخبرتهم إنني سوف نتزوج بعد خروجك من الجيش ."
فقال دون تفكير:
"سأعود الأسبوع المقبل... ونعلن خطوبتناو نحدد موعد عقد القران " .
ومرت الأيام سريعا ، حتى جاء اليوم الأخير. كان مع سوزي وصديقتها في نزهة بسيارته. أوصل الصديقة إلى منزلها ، وبقي مع سوزي يتطارحا الغرام.
اقترحت عليه أن يذهبا إلى البحيرة، حيث ولدت قصة حبهما. وهناك، نبتت الفكرة الشيطانية الجهنمية في ذهنه... القتل.
في لحظة صمت، نظرت إليه وقالت:
– "أنا أسعد مخلوقة في العالم... سنعيش معًا، سنتزوج ، سنكون في بيت واحد ، لن نفترق أبدا !"
وانطلقت نحو الماء الفضي تضحك، وتغني، وتلعب، ثم عادت إليه، جذبت يده، برفق و حنان ، وولّت بظهرها نحوه.
عندها... رفع العصا الغليظة ات أحضرها معه . ضربة واحدة...
وغابت سوزي في المياه الذي تغير لونه إلى الحمرة ، بينما استعاد سطح البحيرة هدوءه، كأن شيئًا لم يحدث.
في صباح اليوم التالي، اكتُشفت الجثة.
وكانت الأدلة كافية ، بل و شهادة صديقتها التي كانت معهم قبل أن تغادرهما.
وكان اعترافه لوكيل النيابة صريحًا.
لكن رشا... لم تصدقما كتب في الجرائد. لم تستوعب ما قرأته في الصحف من هذه الجريمة البشعة .
و استمرت المحكمة ما يقرب من شهر ، و أخيرا كان الحكم الذي أسعد أهل سوزي ، و أحزن أهله و أهل رشا .
وحين وضع حبال المشنقة حول عنق شريف الخالدي،
كان الحب ، الذي مزّقه بيديه ، يلفظ أنفاسه الأخيرة في غرفة الإعدام ...