الخيال العبثي: بين الفلسفة والأدب
المقدمة
الخيال العبثي هو نوع من الروايات والمسرحيات والقصائد والأفلام أو غيرها من الوسائط التي تركز على تجارب الشخصيات في مواقف لا يمكنهم فيها العثور على أي هدف أساسي في الحياة وغالبًا ما يتم تمثيل ذلك من خلال أفعال وأحداث لا معنى لها في نهاية المطاف التي تدعو إلى السؤال حول يقين المفاهيم الوجودية مثل الحقيقة أو القيمة.
يمثّل الأدب العبثي (Absurd Literature) أحد أبرز الاتجاهات الفكرية والجمالية في القرن العشرين، وقد نشأ من رحم التحولات العميقة التي شهدها العالم إثر الحربين العالميتين وما رافقهما من انهيار للقيم الدينية والاجتماعية والسياسية. يقوم هذا الاتجاه على تصوير الإنسان في مواجهة فراغ وجودي وانعدام المعنى، حيث تبدو الأفعال اليومية والأحداث الكبرى على السواء خالية من الغاية والانسجام.
وقد أسهم عدد من المفكرين والكتّاب في تأسيس ملامح هذا الاتجاه، أبرزهم ألبير كامو في فلسفته عن "العبث" (Le Mythe de Sisyphe, 1942)، وفرانز كافكا في تصويره العوالم الملتبسة والبيروقراطية القاتلة، وصامويل بيكيت في مسرحه الذي يعكس الانتظار العقيم وانقطاع التواصل، وفريدريك نيتشه في طرحه لمفهوم العدمية (Nihilism)، فضلاً عن سورين كيركغور الذي قدّم بذور الوجودية التي انبثق عنها العبث.
الإطار النظري
1. المفهوم الفلسفي للعبث
العبثية (Absurdism) مصطلح فلسفي وأدبي يعكس التناقض بين تطلع الإنسان لمعنى وغاية في الحياة، وبين صمت العالم وخلوّه من المعنى. صاغ كامو هذا التوتر بقوله: "إن العبث ينشأ من المواجهة بين صمت العالم ولا معقوليته، وبين توق الإنسان إلى الوضوح والمعنى" (كامو، 1942).
في هذا السياق، يتقاطع العبث مع الوجودية التي تعترف بحرية الإنسان ومسؤوليته عن خلق المعنى (سارتر)، ومع العدمية النيتشوية التي ترى انهيار الأسس الدينية والأخلاقية التقليدية.
2. الجذور الفكرية والأدبية
• كيركغور: اعتبر الإيمان الديني خيارًا "عبثياً" يتجاوز العقل.
• نيتشه: أعلن "موت الإله"، مما أدى إلى أزمة المعنى.
• كافكا: صاغ صورًا رمزية لحياة بلا غاية، مثل المحاكمة (1925) والمسخ (1915).
• كامو: طرح فكرة التعايش مع العبث دون الانتحار أو الاستسلام.
• بيكيت: قدّم مسرحيات تُجسّد العدم والتكرار، مثل في انتظار غودو (1953).
التحليل
1. الخصائص الفنية للخيال العبثي
• غياب الحبكة التقليدية (الحدث الصاعد – الذروة – الحل).
• شخصيات غير متسقة، تعيش تكرارًا دائريًا.
• حوارات بلا معنى أو قائمة على التكرار والفراغ.
• توظيف الكوميديا السوداء والسخرية لفضح اللاجدوى.
• تقنيات مثل: التشابه الصوتي، التدفق الواعي، الهجاء، المفارقة.
2. الخيال العبثي في الرواية
• كامو: الغريب (1942) تجسيد للامبالاة الوجودية، وأسطورة سيزيف مرجع فلسفي.
• كافكا: المحاكمة نموذج للبيروقراطية القاتلة واللاجدوى.
• دوستويفسكي (جزئياً): ملامح عبثية في الأخوة كارامازوف عبر طرح أسئلة حول الشر والمعنى.
3. مسرح العبث
أطلق الناقد مارتن إيسلين (1960) مصطلح "مسرح العبث" على كتاب مثل:
• بيكيت (في انتظار غودو) – انتظار لا ينتهي لمعنى لن يأتي.
• يونسكو (المغنية الصلعاء) – انهيار اللغة والتواصل.
• آداموف وجان جينيه – تصوير الفوضى واللامعقول.
4. البعد النفسي والاجتماعي
تُظهر الدراسات الحديثة (مثل دراسة بجامعة كاليفورنيا، 2009) أن قراءة النصوص العبثية تعزز قدرة الإنسان على "البحث عن أنماط" وسط الفوضى، ما يعكس أثرها في تحفيز التفكير النقدي. ومن الناحية الاجتماعية، يعكس الأدب العبثي أزمة الإنسان الحديث في مواجهة الحروب، التشيؤ، والاغتراب.
الخاتمة
الخيال العبثي ليس مجرّد تيار أدبي، بل هو تعبير فلسفي عميق عن مأزق الوجود الإنساني في عصر فقد اليقين الديني والأخلاقي، وواجه صدمات التاريخ الحديث. فهو يكشف عن التوتر الدائم بين توق الإنسان إلى المعنى وصمت الكون.
لقد جسّد كافكا المعاناة البيروقراطية، وكامو مأساة العدم، وبيكيت الانتظار العقيم، بينما وفّر نيتشه وكيركغور الأسس الفلسفية التي غذّت هذا الاتجاه.
إن العبثية ليست دعوة لليأس بقدر ما هي إضاءة للمأزق الوجودي ودعوة للوعي والنقد، وربما للتمرد الخلّاق كما عند كامو، الذي دعا إلى "التصالح مع العبث" ومواصلة دحرجة صخرة سيزيف رغم لا جدواها.
المراجع
• كامو، ألبير أسطورة سيزيف. باريس: 1942.
• كامو، ألبير. الغريب. باريس: 1942.
• كافكا، فرانز. المحاكمة. 1925.
• كافكا، فرانز. المسخ. 1915.
• بيكيت، صامويل. في انتظار غودو. باريس: 1953.
• يونسكو، أوجين. المغنية الصلعاء. 1950.
• نيتشه، فريدريك. العلم المرح. 1882.
• كيركغور، سورين. رهبة ورعدة، 1843.
• Esslin, Martin. The Theatre of the Absurd. London: 1960.