خريطة "إسرائيل الكبرى"
ها هي أخيراً النسخة المعدّلة والواضحة لما يُسمّى بـ "إسرائيل الكبرى". النسخة القديمة – التي صاغتها المرحومة الآنسة جولدا مائير – كانت مجرد شعار مبهم من "النيل إلى الفرات" بلا تحديد، أما النسخة الجديدة التي أخرجها إلينا "النتن" فبالألوان والحدود والتفاصيل: شرق النيل والشام، غرب الفرات، شمال السعودية، وصولاً إلى الكويت.
ونحيي "النتن" لأنه لم يكتفِ برسم خريطته، بل وزّع رائحته ورائحة عصابته معها، وكأنما يظن نفسه رساماً جغرافياً عبقرياً. ولا شك أن أحمد سعيد، بصوته الهدّار عبر إذاعة "صوت العرب"، لو كان حياً لصدح من جديد: "أمجاد يا عرب… أمجاد!".
الفكرة ليست جديدة: "جمع شتات اليهود" من كل أصقاع الأرض، وإعادة إحياء أسطورة "شعب الله المختار". لكن المضحك أن هذا المشروع يُعرض في وقت لم يستطع فيه "النتن" أن يحسم حربه على غزة رغم مرور أكثر من اثنين وعشرين شهراً على عدوانه، دون أن يحقق هدفه المعلن: القضاء على حماس… ثم حزب الله… ثم الحوثيين… ثم ربما – إذا اتسع الخيال – القضاء على أسماك القرش التي "تبلبط" في البحر!
والأعجب أن "النتن" يظن أنه بالخرائط الجديدة سيستغني عن أمريكا نفسها، تلك الدولة التي لم تنتصر في حرب واحدة: لا في فيتنام، ولا في أفغانستان، ولا في اليمن، ولا في العراق، ولا في سوريا. بل إن واشنطن أصبحت أشبه بـ"سينما ترمب": أفلام طويلة بلا نهاية سعيدة.
أمريكا التي موّلت الإرهاب بأموال العرب، عرفت في النهاية أن النار التي أوقدتها كانت تحرقها أولاً. اسألوا بن لادن… اسألوا طالبان… اسألوا داعش. وهكذا سيكتشف الشعب الأمريكي – ذات صباح – أنه تخلّص من الابتزاز الصهيوني، وأن أمواله عادت إليه ليُنفقها على مجتمعه الخليط من أحفاد مجرمي إنجلترا وأوروبا، وبقايا بائعات الهوى، وعبيد أفريقيا الذين استُجلبوا بالسلاسل ليُصبحوا "مواطنين صالحين".
دعنا من أمريكا قليلاً، ولنعد إلى الخريطة الزرقاء الميمونة التي نشرها "النتن" وصفّق لها أتباعه المعروفون بالغدر والخسّة. المدهش أن العرب كعادتهم لم يجدوا ما يقولونه سوى بيانات التنديد والشجب، والتوسّل إلى الأمم المتحدة – تلك المؤسسة العجوز المكسورة الجناح – علّها تتدخل لإنقاذهم من هذا "الشر المستطير".
أما النسخة الجديدة من الخريطة، فهي تمحو دولاً كاملة من الوجود السياسي، ليقف "النتن" مزهواً قائلاً: "لقد فقت سايكس وبيكو"، اللذين قسّما المنطقة إلى دويلات صغيرة ليسهل التهامها.
ولعل أكثر ما يدعو للضحك المرّ، أن "بلطجية" مصر و"شبيحة" سوريا قد ينتفضون ذات يوم، لا لمقاومة الاحتلال الجديد، بل إمّا لتحية الحاكم المنتصر القادم، أو لاستعادة ذكرى "الكفاح القديم" على طريقة الأفلام الأبيض والأسود.