إسهام الفاطميين في الفلسفة الإسلامية
المقدمة
ليس من الهيّن – على الباحث المعاصر – أن يتجرّد في هذا الزمن المضطرب، المليء بالصخب والعنف، للحديث عن حقيقة الإسهام الذي قدّمه الفاطميون في مجال الفلسفة الإسلامية. فقد ارتبطت الحركة الفكرية الفاطمية بالفلسفة الدينية الباطنية، التي شكّلت عماد دعوتهم السرية، وأساس دولتهم بعد استقرارها على مسرح السياسة. وقد أثارت هذه الفلسفة جدلاً محتدماً في أوساط العالم الإسلامي، الذي كان يعيش حالة من التمزق السياسي والانقسام الفكري وتعدد الفرق.
إن الباحث الذي يسعى إلى دراسة هذا الإسهام، لا بد أن يجد نفسه مضطراً للتعرض إلى القضايا الكبرى المرتبطة بالدين والفلسفة معاً، لا سيما قضية "منزلة الإنسان في الوجود"، وشروط نجاحه وإخفاقه، وسبل نجاته وخسرانه على مستوى الأفراد والجماعات.
أولاً: السياق التاريخي لظهور الفاطميين
1- أثر التنزيل في تشكيل الوعي الإسلامي
لقد كان "نور التنزيل" المتمثل في القرآن الكريم أولاً، ثم في أحاديث النبي ﷺ، العامل الأساس في تشكيل الوجدان العربي الإسلامي، ودفعه إلى تجاوز فوضى الجاهلية نحو آفاق الحق والخير. ومع ذلك، فقد نبهت "الفتنة الكبرى" المسلمين إلى أن التمسك بظاهر النصوص وحده لا يكفي، بل لا بد من استيعاب القيم العميقة للتنزيل وغاياته القصوى.
2- أثر الفلسفة اليونانية
كان من أهم الأحداث التاريخية التي عمّقت هذا الشعور بالبحث عن "الهضم العقلي" للتنزيل، اكتشاف المسلمين للمنطق والفلسفة اليونانية بعد الفتوحات. وقد أدى هذا التفاعل إلى نشوء حركة عقلية خصبة شارك فيها العرب والعجم، امتدت من عصر الفتوحات حتى القرن الرابع الهجري، أي قبيل بروز الدولة الفاطمية.
ثانياً: الحركة الفكرية الإسلامية قبل الفاطميين
لم يكن الفلاسفة وحدهم من ساهموا في تهيئة الأجواء لفكر الفاطميين، بل شارك في ذلك اللغويون والنحاة والمتكلمون والفقهاء والأصوليون والمحدثون والمؤرخون والمتصوفة. فكل هؤلاء – على اختلاف اتجاهاتهم – مدّوا العقل الإسلامي بالوسائل والآلات التي صقلت مداركه، ووسعت آفاقه، حتى غدا العقل الإسلامي أشبه بـ "مخبر عقلي" قادر على الغوص في أسرار التنزيل.
ثالثاً: الفاطميون كحركة فكرية
1- كحركة سياسية ثورية
مثّلت الدعوة الفاطمية حركة سياسية ثورية محكمة التنظيم، اعتمدت على النشاط السري والدعاية الواسعة في أنحاء الممالك الإسلامية. وكان هدفها المعلن القضاء على النظام العباسي وبناء نظام جديد، قائم على ولاية أهل البيت. وقد رأت في نفسها "دولة الخير" في مواجهة "دولة الشر" العباسية، كما يظهر في رسائل إخوان الصفا التي بشّرت بظهور "دولة الفضلاء" (إخوان الصفا، ج11، ص186).
2- كحركة دينية فلسفية
أما على الصعيد الديني الفلسفي، فقد أرادت الباطنية الفاطمية تجاوز أسلوب الجدل الكلامي الذي رآه دعاتها مجرد "فتنة للعقول" لا "تأليف للقلوب". فالقاضي النعمان – في دعائم الإسلام – ينتقد بشدة كثرة المذاهب والآراء الجدلية التي شتتت الأمة، وهو موقف يلتقي مع نقد إخوان الصفا للمتكلمين، بل وحتى مع نقد الغزالي لاحقاً في إحياء علوم الدين.
وفي الجانب الإيجابي، سعى الفاطميون إلى صياغة رؤية شاملة تمزج بين:
• التأمل في آيات القرآن الكريم وأسراره.
• الاستفادة من الفلسفة اليونانية والشرقية.
• استحضار التجربة الإنسانية في بعدها الصوفي والمعرفي.
وتتجلى هذه الرؤية في كتب مثل:
• راحة العقل (أحمد حميد الدين الكرماني).
• دعائم الإسلام و أساس التأويل (القاضي النعمان).
• الرسائل الجامعة و رسائل إخوان الصفا.
3- كحركة تربوية شاملة
لم تكن الباطنية مجرد فلسفة نظرية، بل نظرة تربوية تهدف إلى إعادة بناء الإنسان والمجتمع على أسس روحانية وأخلاقية. وقد تجلّت هذه النزعة في تصورهم لـ "المدينة الروحية الفاضلة"، التي يعبر عنها الكرماني رمزياً في بناء كتابه راحة العقل كمدينة محصنة ذات أسوار ومشارع.
رابعاً: فلسفة التأويل عند الفاطميين
1- التأويل كأداة معرفية
يعد "التأويل" حجر الزاوية في الفلسفة الباطنية. فهو الأداة التي يتجاوز بها الداعية ظاهر النصوص إلى باطنها، ومن خلالها تتحول المتشابهات القرآنية إلى مفاتيح لفهم أسرار الوجود.
2- نظرية المثل والممثول
استند الفاطميون إلى نظرية "المثل والممثول"، التي ترى أن الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير. ومن هنا كان هدفهم تأكيد "المنزلة الإنسانية" في ضوء الحقائق التي تجمع بين الحكمة القرآنية والفلسفة اليونانية.
3- البعد الصوفي للتجربة الباطنية
اقتربت التجربة الباطنية في عمقها من التجربة الصوفية، حيث لم تكتفِ بشرح الألفاظ أو الإعراب، بل غاصت في "المعنى الكلي"، محاولة الربط بين ظاهر التنزيل وباطنه، وبين العالم الحسي والعالم الروحي.
الخاتمة
إن إسهام الفاطميين في الفلسفة الإسلامية لا يمكن اختزاله في تهم الخصوم أو في صورة نمطية ضيقة. فقد كانت فلسفتهم محاولة فريدة لصياغة رؤية شاملة توفق بين النص القرآني، والفكر الفلسفي، والتجربة الصوفية، في سبيل إعادة بناء المجتمع الإسلامي على أسس معرفية وروحية متينة.
وإذا كانت حركتهم قد واجهت خصومات شديدة من أمثال البغدادي وغيره، فإن ما وصلنا من آثارهم يكشف عن عمق فلسفي لا يقل عن إنتاج المعتزلة أو الأشاعرة أو الغزالي. ومن ثم، فإن دراسة التراث الفاطمي ضرورة لفهم مسار الفلسفة الإسلامية وتطورها.
المراجع
1. القاضي النعمان، دعائم الإسلام. القاهرة: دار المعارف، 1963.
2. الكرماني، أحمد حميد الدين، راحة العقل. تحقيق: مصطفى غالب، بيروت: دار الأندلس، 1977.
3. إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا. بيروت: دار صادر، 1957.
4. البغدادي، عبد القاهر، الفرق بين الفرق. القاهرة: مكتبة النهضة، 1964.
5. الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين. بيروت: دار المعرفة، 1981.
6. هادي العلوي، فلسفة التأويل عند الباطنية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1992.
7. فرهاد دفتري، تاريخ الإسماعيليين. لندن: دار الساقي، 1993.